حذر من الدكتاتوريات العسكرية ونصح البريطانيين في الأربعينيات بعدم تأييد الطبقة الحاكمة

مذكرات عراب تأميم النفط العراقي

TT

في السادس والعشرين من أغسطس عام 1946 كتب سياسي عراقي لامع مقالة مهمة في مجلة «نيو ستيتسمان أند نيشن» البريطانية حملت عنوان «الوضع في العراق». وكان لهذه المقالة صدى واسع في الأوساط البريطانية المعنية بالشؤون العراقية، فضلا عن صداها في العراق. وقد ألقت المقالة أضواء على تاريخ العراق الحديث حتى فترة الحرب العالمية الثانية، وهاجمت حكومة أرشد العمري رئيس الوزراء آنئذ. وجاء فيها:

«إن الرأي العام العراقي يعتقد أن بريطانيا مسؤولة عن الأوضاع في العراق. فالبريطانيون يساندون الطبقة الحاكمة الرجعية ضد الاصلاح التقدمي، ويشاع في العراق أن أعمال الاضطهاد والتنكيل بدأت بطلب من البريطانيين. ويعتقد أن بريطانيا تهدف الى إضعاف المعارضة الجماهيرية لسياستها في فلسطين، والى منع انتشار النفوذ السوفييتي. ولكن مهما كان هذا الاعتقاد مبالغاً فيه، فانه إذا استمرت هذه الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المرضية، وإذا تأخر إجراء الاصلاحات المطلوبة السريعة، فإن كراهية عرب العراق لبريطانيا ستشتد وسيصبح موقفها سيئا في هذا الجزء من العالم».

كان كاتب هذه المقالة هو محمد حديد، السياسي والاقتصادي والشخصية الاجتماعية العراقية البارزة. وكانت تلك المقالة الخطيرة، التي أدت الى منع المجلة البريطانية من دخول العراق مدة من الزمن، واحدة من نشاطات فكرية وسياسية كانت حياة محمد حديد المديدة مفعمة بها.

وقد رأت النور، أخيراً، مذكراته التي صدرت العام الماضي عن «دار الساقي»، فأثارت فيّ شجناً واستذكاراً لأيام كنت ألتقيه خلالها في مصحة بضواحي لندن، حيث قضى سنواته الأخيرة قبل رحيله يوم الثالث من أغسطس (آب) عام 1999 عن عمر ناهز الثانية والتسعين.

وكنت قد تعرفت عليه عن طريق السياسي العراقي الصديق مجيد الحاج حمود، وكان من المتحمسين لمشروع مذكرات محمد حديد الذي ظل سنوات طويلة يمانع في كتابتها.

وفي أعقاب تلك الزيارة كنت خلال عامي 1997 و1998 أذهب اليه في مرتين في الأسبوع مستقلاً القطار من محطة ايلنغ برودواي غرب لندن الى ميدنهيد بمقاطعة يوركشاير لأصل من هناك الى المصحة.

وكنت أسابق الزمن من أجل تدوين المذكرات بصيغتها الأولية كمعلومات حتى لا تضيع. وكم كنت أشعر بالأسى عندما يكون الرجل مرهقاً فاضطر الى التوقف أو عندما يتصل بي معتذراً عن استقبالي بسبب الارهاق الذي يشعر به.

كان تعب السنين (كان في التسعين يومئذ) قد هد جسده، لكن ذهنه ظل متقداً مثل جمر ذاكرته. وغالباً ما كان يميل الى التحدث، مسترسلاً، بالفصحى، مدققاً في هذه الكلمة أو تلك، ومجادلا في هذا التعبير أو ذاك. وكنت كلما توفرت فرصة أتبادل معه الرأي ساعياً الى الاستزادة من غنى تجربته. وكنت أستفزه أحياناً، مختلفاً معه في هذا التحليل أو ذاك، فينجر، ولكن بطريقة هادئة، الى الحديث عن هذا الجانب أو ذاك، وبطريقة تجسد احترامه للاختلاف في الرأي.

وكان يملي عليّ المذكرات (أملى على آخرين جزءاً منها) خلال فترة زادت عن العام، فأقوم بإعدادها منقحة ليطلع عليها في المرة المقبلة بهدف التدقيق قبل أن نبدأ بجولة جديدة من التدوين على الورق وليس على جهاز تسجيل، فقد كان يخشى ذلك !

ولم يندر في أثناء ذلك أن تقاطعنا ابنته زها، المعمارية البارزة، متصلة به هاتفياً، فتنفرج أساريره، ويبدأ يهدر معها باللهجة الموصلية.

كان، على عادة العراقيين، يحب رواية القصص. ومن طريف ما رواه لي ذلك اللقاء في نمرود، التي تضم الآثار الآشورية، مع الكاتبة البريطانية الشهيرة أغاثا كريستي وزوجها عالم الآثار ماكس مالوين، الذي كان ينقب في العراق خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأقام صداقة معهما. وكان قد طلب في وقت لاحق من البروفيسور مالوين السعي الى قبول ابنه هيثم للدراسة في جامعة كمبريدج، فحقق له ذلك، وكرر المسعى لقبول ولده الثاني فولاذ في الجامعة ذاتها.

ويشتمل كتاب (مذكراتي: الصراع من أجل الديمقراطية في العراق)، الذي قام بتحقيقه نجدة فتحي صفوة وكتب له مقدمة أيضاً، مع تمهيد كتبه فولاذ حديد، الذي وضع ملاحظات تذييلية مهمة للنص، يشتمل على عشرين فصلا وتسعة ملاحق، ويقع في 567 صفحة من القطع الكبير.

وتناولت الفصول سيرة محمد حديد الشخصية والسياسية منذ ولادته في الموصل، ودراسته في بريطانيا، ونشاطه السياسي في العراق، وعمله وزيراً للمالية في أول حكومة في العهد الجمهوري، ودوره في مفاوضات النفط مع الشركات الأجنبية التي انتهت الى اصدار القانون رقم 80 الذي كان هو عرّابه. وتلقي المذكرات أضواء على الصراعات والتعقيدات التي طبعت عهد عبد الكريم قاسم، واختلاف محمد حديد مع صديقه القديم كامل الجادرجي، الذي أمضى معه ما يقرب من ثلاثة عقود في قيادة الحزب الوطني الديمقراطي. ومن الفصول المهمة ذلك التقييم الساعي الى الموضوعية لعهد قاسم من جانب سياسي كان من أبرز شخصيات الحكم إبان ذلك العهد العاصف، الذي أثار اختلافات وخلافات، وما يزال تقييمه موضع جدل حتى يومنا.

ومع اقرار حقيقة أن نشر المذكرات يعد انجازاً مهماً، غير أنه يبقى باعثاً على الأسى العميق أن محمد حديد لم يتمكن ولم تتوفر له الظروف لجلب أرشيفه الغني في العراق، حيث كان يحتفظ في مكتبته وأوراقه الشخصية بكثير من الوقائع. وكان من شأن ذلك أن يوفر مادة غزيرة تغني المذكرات، وتعالج ما بدا مبتسراً في بعض المواضع.

ولعل من بين المحطات المهمة في حياة صاحب المذكرات توجهه، بعد إكماله المرحلة التحضيرية في الجامعة الأميركية ببيروت، للدراسة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية عام 1928 وتخرج، كأول عراقي فيها عام 1931 بدرجة شرف.

ولا ريب أن دراسته في هذه الكلية العريقة بلندن على أيدي نخبة من أبرز علماء الاقتصاد والسياسة في بريطانيا والعالم كانت من أهم العوامل في تشكيل وعيه الديمقراطي واعتناقه مبادئ العدالة الاجتماعية التي سعى اليها طوال حياته.

وإثر عودته من بريطانيا اتصل بمجموعة من المثقفين، كان بعضهم زملاء له في الجامعة الأميركية ببيروت، فأسسوا «جماعة الأهالي» التي كان لها دور كبير في نشر الوعي السياسي التقدمي في العراق.

ولعل من بين ما ميز حياة محمد حديد السياسية والفكرية، من بين أمور أخرى، نشاطاته مع السياسيين البريطانيين وكتاباته ورسائله الى الصحف البريطانية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. وكان لذلك أثر كبير في تعريف الرأي العام البريطاني بحقيقة الأوضاع في العراق.

ومن بين رسائله العديدة تلك الرسالة التي كتبها الى محرر صحيفة «التايمز» في نوفمبر (تشرين الثاني) 1952، وجاء فيها إن «الأحوال المؤسفة السائدة في العراق يجب القضاء عليها بالديمقراطية الصحيحة، ولا يمكن معالجة الشعور المعادي للبريطانيين، إلا عندما يشعر الشعب العراقي بأن بريطانيا تؤيد إقامة الديمقراطية الصحيحة في العراق».

وكأن محمد حديد كان يتنبأ بخطر الدكتاتوريات العسكرية في «العالم الثالث». فقد كتب في الفترة ذاتها رسالة الى محرر «مانشستر غارديان» انتقد فيها تسامح المحرر مع الدكتاتوريات العسكرية، وذكر أن «شعوب الأقطار المتخلفة في القرن العشرين، أدركت حقوقها في الحرية والعدالة في ظل حكم دستوري، واذا ما ساندت بريطانيا الدكتاتوريات، فإنها ستخسر ودّ تلك الشعوب وصداقتها». وقد علق المحرر على ذلك قائلاً إنه «إذا كان الحكم العسكري هو البديل الوحيد لحكم الغوغاء، وإذا نفذ الاصلاحات الجذرية فلا بأس به». فرد عليه محمد حديد قائلا إن «تحقيق مطالب الأحزاب المعارضة لا يعتبر حكم غوغاء».

ومنذ المقالة التي نشرها محمد حديد في صحيفة «البيان» في ابريل (نيسان) 1936 حول «اتفاقية السكك»، ظل يكتب بأسلوب تحليلي انتقادي. وتجلى ذلك في مختلف كتاباته ومؤلفاته الاقتصادية، وبينها (مشكلة الأرصدة الاسترلينية) ـ 1947، و(كيف يجب أن نعدل امتيازات النفط؟) ـ 1949، و(التطور في حقوق نقابات العمال) ـ 1951 و(صناعة الزيوت النباتية في العراق) ـ 1955.

لم يكن محمد حديد، على عادة سياسيين كثر في أيامنا، من السعاة الى جاه أو مال، وهو سليل عائلة موسرة متنورة، وقد أكسبته ثقافته وعقلانيته التنويرية وكفاءته ونزاهته وصفاته الشخصية الرفيعة محبة واحترام من عرفوه أو تعرفوا على تاريخه المفعم بالمواقف والعبر.

في مذكراته قال السياسي العراقي البارز كامل الجادرجي عن محمد حديد، زميله والمختلف معه، إنه «على الرغم من أنني غير متفق معه كل الاتفاق في طريقة العمل، ولكنني أعتبره من الأشخاص النادرين في العراق، بالنظر لمتانة أخلاقه ومقدرته العلمية في القضايا الاقتصادية والمالية، ولسعة اطلاعه في الأمور الأخرى، اذ قلما تجتمع الثقافة والأخلاق في شخص مثلما اجتمعت في محمد حديد».