غراس فتح الطريق للطفل كي يلتقي بالشيخ في آخر محطة العمر

رداً على أمير طاهري

TT

دفعتني قراءة مقالة الزميل أمير طاهري، المنشورة في «المنتدى الثقافي» بتاريخ 30/7 والمعنونة: «لماذا قرر غراس الكشف عن ماضيه الآن؟» إلى التنقيب عن المقابلة التي أجرتها صحيفة «فرانكفورتر ألغاين» مع غونتر غراس يوم 12 أغسطس (آب) 2006، للتحدث إليه حول كتابه الجديد «أثناء تقشير البصل»، وفيها كشف عن أنه كان عضوا في «كتائب الحماية الخاصة» المعروفة باسم «Waffen SS».

بالطبع سيكون خبر كهذا صاعقا، خصوصا مع روائي وشاعر وفنان تشكيلي ومسرحي ومعلق سياسي ظل فعالا وسط أحداث عصره. فخلال الستينات من القرن الماضي، شارك بقوة في دعم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، كما ساهم بحمية في الحملة الانتخابية للمستشار الراحل ويلي براندت زعيم الحزب. كذلك انتقد اليساريين المتطرفين وحاجج لصالح تغيير تدريجي أطلق عليه «خطوات الحلزون» للإصلاح الديمقراطي.

وخلال الثمانينات أصبح من من النشيطين في حركتي البيئة والسلام. ومع سقوط جدار برلين حاجج غراس ضد توحيد الدولتين الألمانيتين بين عامي 1989 و1990 خوفا من أن يؤدي ذلك إلى استئناف ألمانيا لدورها كدولة محاربة.

إذن الهاجس من عودة النازية إلى ألمانيا، هو واحد من مقومات نقده لبلده على عدم القيام بما فيه الكفاية لمواجهة ماضيه النازي. ولعل رواياته: «الطبل الصفيح» (1959) و«قط وفأر» (1963) و«سنوات الكلاب» (1963) تشكل ثلاثية تتناول وبإسلوب الواقعية السحرية حياة ذلك الجيل الذي دخل أتون الحرب في سن المراهقة، ومن بقي من أفراده حيا بدأ سنوات الرشد على أنقاض النازية.

وهنا تصبح هذه المعلومات التاريخية ضرورية لبناء حكم موضوعي تجاه العدو اللدود للنازية، الذي اتضح أنه عضو في أكثر أجهزتها إجراما: «كتائب الحماية الخاصة أس أس».

ولد غونتر غراس في أكتوبر (تشرين الأول) 1927، أي كان عمره 6 أعوام، حينما وصل الحزب النازي إلى الحكم عام 1933. وخلال الستة أعوام التي سبقت الحرب، تمكن هتلر من جذب الشبيبة إلى منظماته عبر تلك المسيرات الضخمة والخطب والعروض والموسيقى والمعمار، بالمقابل جاء إلغاؤه للعقوبات الاقتصادية التي فرضها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى والمطالبة بعودة الأراضي الألمانية التي اقتطعت منها، ليمنح هذا الشعور الوهمي بالعظمة القومية.

كيف سيتكون طفل ضمن مناخ كهذا؟ في عام 1942 تطوع غراس للبحرية تخلصا من تضييق والديه المقيمين في غدانسك البولندية عليه. كان عمره آنذاك خمسة عشر عاما أو أقل قليلا. لكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 1944 جُند إلزاميا ليعمل في كتائب الحماية الخاصة سيئة الصيت، أي في سن السادسة عشرة. قال غراس في المقابلة الصحافية نفسها: «حدث مثلما حدث للكثير من أبناء جيلي. كنا في دائرة العمل ثم بعد عام واحد وضِع أمر التجنيد على الطاولة. وفقط حينما وصلتُ إلى درسدن علمتُ أنها كتائب الحماية الخاصة».

تحضرني تلك الأفلام الوثائقية التي يصافح فيها هتلر صبيانا في سن غراس قبل إرسالهم إلى حتفهم. حدث ذلك في أواخر الحرب بعد الخسائر البشرية التي لحقت الجيش الألماني في الاتحاد السوفييتي وفرنسا وإيطاليا.

لم يمض على تجنيد غراس الإجباري أكثر من سبعة أشهر حتى دفِع إلى معركة جرح فيها وأخذ أسيرا. كان ذلك في أبريل (نيسان) 1945 (أي كان عمره 17 سنة وستة أشهر).

يضع الزميل طاهري كل هذه التفاصيل جانبا. لعل ذلك من منطلق أن يكون المرء حتى في سنوات طفولته ومراهقته قادرا على الاختيار الواعي. إذ كيف يمكن لإنسان كان نازيا أن يصبح لاحقا عدوا لدودا لها. لذلك يقول ساخرا: «كان غراس يشعر عادة بالغضب من شعبه، لأنه يدعي أنهم لم يتمكنوا من التخلي عن ماضيهم الفاشي من خلال الاعتراف بدورهم في الجرائم التي ارتكبت باسمهم في ظل نظام هتلر النازي».

من هذه النظرة أفهم أن المرء لا يحق له انتقاد فكر كان ينتمي له (علما بأن هذه الحال لا تنطبق على الإطلاق على غراس لعامل السن). لكننا في تاريخ الأدب نجد نماذج كثيرة تعارض هذه الفرضية. اعتُقل دوستويفسكي الاشتراكي في منتصف العشرينات من عمره، لانتمائه إلى منظمة ثورية تتبنى الاغتيال السياسي وحكم عليه بالإعدام ثم خففت العقوبة إلى سجن في سيبيريا. مع ذلك تحول لاحقا إلى داعية ديني ـ قومي وكتب روايته «الشياطين» أكثر الأعمال هجاء للاشتراكيين. كذلك هو الحال مع جورج أورويل الشيوعي، الذي شارك في الحرب الأهلية الإسبانية لصالح الجمهوريين، لكن ذلك لم يمنعه من التحول إلى عدو لدود للانظمة الشيوعية، فيكتب روايتيه الساخرتين «مزرعة الحيوانات» و«عام 1984» ضدها.

يتناول تولستوي في روايته «الحرب والسلم» جانبا أساسيا يتعلق بالوجود الإنساني: إنه التغير الجذري الذي يطرأ على الفرد ضمن محطات حياته المختلفة. وهذا التغير، وإن بدا مفاجئا من الخارج لكن عند رصد التحولات من الداخل يصبح مفهوما. هناك على سبيل شخصيتا الأمير اندريه وبيير. كان الأول ملحدا ومتعجرفا ولا مباليا بالآخرين. ويأتي التغيير عند اصابته في معركة اوسترليز بالنمسا ووقوعه أسيرا بيد نابليون. يحصل التحول لحظة استرجاعه للوعي ليفاجئه اتساع السماء الزرقاء فوق رأسه. في جزء آخر من حياته سنجده شخصية أخرى معاكسة للأولى. كذلك هو الحال مع بيير الذي يتحول من ملحد إلى ماسوني ثم إلى ثوري ضمن مراحل حياته.

كان كل ما قام به غراس يصب باتجاه بناء جسور مع الآخرين من ثقافات أخرى. فلبولندا التي كانت أول الضحايا على يد هتلر، موقع خاص في نفسه، ومدينة غدانسك التي عاش فيها حتى بدء مراهقته هي مسرح أحداث رواياته الثلاث الاولى. ولهذا منحته المدينة لقب مواطن شرف. في عام 2001 اقترح غراس تأسيس متحف ألماني بولندي للفن الذي سرقه النازيون. وبعد اعترافه الأخير انتقد ليتش فاليسا الرئيس السابق لبولندا والحائز جائزة نوبل للسلام غراس لبقائه صامتا فترة طويلة، لكنه تراجع بعد قراءة رسالة غراس إلى عمدة غدانسك، واعترف بأن غراس «وضع نفسه مثلا جيدا للآخرين».

يرسم طاهري صورة شاحبة عن شخص ظل جزءا عضويا من نسيج قضايا بلده أولا والعالم ثانيا. أتوقف عند هذه الجملة الهجومية الطويلة ضد غراس: «خلال نصف قرن دعم الامبراطورية السوفييتية في وسط وشرق أوروبا والماويين في الصين ونظام كاسترو في فيتنام والخمير الحمر في كمبوديا وأخيرا آية الله الخميني في إيران وسلوبودان ميلوسيفتش في يوغوسلافيا وصدام حسين في العراق».

كم كان بودي لو أن هناك اقتباسات مما قاله غراس عن كل من هؤلاء الأشخاص، فوضعهم جميعا في سلة واحدة يشبه وضع جيمي كارتر وكلينتون وآل غور في خانة واحدة مع المحافظين الجدد: الرئيس بوش ونائبه تشيني ورامسفيلد، أو بوضع كل آيات الله في خانة واحدة. في هذه الحالة تُقصى كل الألوان من الموشور، ويبقى اللونان الأسود والأبيض فقط.

لكن السؤال الذي يظل جوهريا: لماذا اعترف غونتر غراس بانضوائه القسري إلى كتائب الحماية الخاصة في سن المراهقة التي لم يعشها؟ كان بإمكانه أن يتغاضى عنها تماما. فلا قانون أو مبدأ هناك يحاسب صبيا على أي جريمة يقوم بها باختياره، على الرغم من غياب أي «جريمة» في حال غراس.

لكنها حكمة العمر المديد. حينما تفقد النجاحات الشخصية إغراءاتها، ويبقى ذلك الصوت الداخلي الدافع نحو انفتاح شامل على العالم. يقول بودلير إن العبقرية تبدأ في إبداع الفنان حينما يتبنى مبدأ: «قلبي عاريا». ولعل الإنجاز الحياتي الأصعب، حينما يطبق المرء هذا المبدأ على أفعاله كلها. إنه فتح الطريق للطفل كي يلتقي بالشيخ في آخر محطة العمر: «قلبي عاريا».