الاقتصاد اللبناني.. عملية اغتيال متواصلة

TT

قد تكون جولة الحرب الإسرائيلية المدمرة، غير المسبوقة بما خلفته من خراب، على لبنان المعلنة في 12 يوليو (تموز) 2006، قد غيّرت وبدّلت في المعادلات والرؤى الاقتصادية، وفي المعطيات السياسية والاجتماعية التي يطرحها ويعرضها ميشال مرقص في كتابه «الاقتصاد في عالم الاغتيال». لكن هذا الكتاب يملك قدرة استشراف مستقبلية ورؤى لا بد من الاطلاع عليها، لأنها لا تقدم للقارئ المقدمات فحسب، بل تطرح حلولاً أيضاً.

ويرى المؤلف أنه، بينما يسير العالم يسير نحو الرقي، يتلهى سياسيو الوطن الصغير في اتقان فن تقعير الفراغ، وهذا أحد الأسباب الأساسية التي تجعلنا دمية في لعبة الدول.

ويتطرق أيضاً، في توصيفه للتفسخ الداخلي الذي سمح لإسرائيل ومن ورائها بارتكاب مجازرها، إلى تركيبة السلطة الناتجة عن انتخابات 2005، فيرى أن الأدوات التي هيمنت على نتائج الانتخابات، لأسباب لا مجال لذكرها، هي التي أفرغت الوطن الصغير، مما كان يملكه من بقية أمل. فجرت الانتخابات معلبة قبل حصولها. انتخابات لا تمت بصلة للديمقراطية، ويكفي أن هذا المجلس كان أهم منجزاته تفريغ المجلس الدستوري لتفويت الفرصة على الطعون النيابية. ويقول إن القوى التي هيمنت على نتائج الانتخابات تحفزت طوال أشهر للانقضاض على من ليس في جانب السلطة، فأصبح الجو عابقاً بالتخوين والتهديد والوعيد والقتل المتسلسل. وهذا ليس جواً لوطن يؤمن بالديمقراطية ويهيّئ نفسه ليستقطب الاستثمارات ومشاريعها. هذا المناخ تحريضي لتهجير الاستثمار ورأس المال فزاد من الجمود الاقتصادي، وتداخل السياسي مع الاقتصادي، وتغذّى من الديمقراطية المستجداة من الخارج.

إن اغتيال رفيق الحريري هز لبنان، لكنه لم يدمره. لقد كان الحريري يعرف حجم العراقيل والمؤامرات التي تحوكها إسرائيل وغيرها، ويساهم فيها بعض اللبنانيين عن قصد أو غير قصد. أليس هو القائل: «إن لبنان لم يعد مريضاً، بل هناك من يريد تصويره كذلك حتى يمنع خروجه من المستشفى» (جريدة المستقبل 17/2/2005).

وكان على القوى الاقتصادية وأسواق المال، أن تتماسك لتتلافى الآثار السلبية الناتجة عن ذلك. لكنها وضعت الحدث في مهب التيارات الساخنة والخانقة، ليس بقصد إرباك لبنان اقتصادياً وتفريغه من قدرات شعبه وعطاءات جغرفيته فحسب، بل إلى تحطيم دوره الذي أكسبه دوره التفاعلي بين القارات الثلاث وحجمه، الذي لا يتناسب مع جغرافيته.

لقد كان لبنان أمام منعطفات حادة في اقتصاده قبل العدوان الإسرائيلي التدميري، وكانت هذه الانعطافات توازي أضعاف الواردات، هذا إذا حافظنا على حجم الإنفاق في مستواه. وكان ثلث الدخل القومي مخصصاً لإطفاء أعباء الدين العام وأصوله. وكان عليه أن يزيل كل العوائق التي يمكن أن تنعكس على اقتصاده، بدءاً من ثغرات أمنية لا يتحمل الوطن خضاتها، وصولاً إلى مزاجية القوانين وتعديلها الدائم وفق رغبة القائمين على تنفيذها وتبدل مصالحهم وأهوائهم. لكننا نعلم أن هناك حاضنات تفقيس للقوانين غير لبنانية، سعت إلى جباية عالية بحجة تعزيز الصناعة السياحية واستغلال مواردها وتحريرها من كونها سياحة الأغنياء وأصحاب الثروات. ويتلاقى مع صناعة السياحة، التحدي الذي يواجهه قطاعا الإنتاج الصناعي والزراعي اللذان لا نملك فيهما قدرة تنافسية، مما جعل الروزنامات الزراعية بلا فائدة.

حاول المؤلف استثمار المفاهيم الاقتصادية الحديثة ليسحبها على الواقع اللبناني، ويبني عليها رؤيته. ولم تفته النظريات الحديثة في استثمار البطالة واستغلال الحاجة، والتعرض لأسباب عولمة الإرهاب وتجارة الموت والدفع اليومي والمتواتر لتحفيز الأصوليين، وتأثير ذلك على التنمية الاقتصادية. ورأى أن التضييق الاقتصادي على لبنان الذي سبق العدوان الوحشي الإسرائيلي، هو تتويج لعمليات إرهابية تقوم بها الدول لا الأفراد، وهذا بحاجة إلى دراسة معمقة.