من يخلف صاحب آخر الحرافيش؟

الدار البيضاء: صدوق نورالدين

TT

في حوار أجري مع الناقد السوري «جورج طرابيشي» بخصوص تجربته النقدية، وتضمن رأيه في مسار الرواية العربية، اعتبر طرابيشي ما قدمه نجيب محفوظ للرواية العربية صيغة ومادة، يوازي المنجز المقدم من طرف أكثر من روائي أوروبي. فمحفوظ حسب طرابيشي كتب في الرواية التاريخية، الواقعية، النفسية الفلسفية، والوجودية. بمعنى أنه ساير وبشكل فردي ذاتي أهم تحولات الرواية الأوروبية، وانجز وحده ما كان يحتاج أكثر من روائي أوروبي لإنجازه.

إن قيمة هذا التصور تتمثل ـ أساسا ـ في الآثار المدونة من لدن محفوظ، إذا ما لمحنا لكون طرابيشي ألف كتابا قويا عن محفوظ وسم بـ«الله في رحلة نجيب محفوظ»، ومن ثم فإن المرجعية في هذا التصور تتحدد في بعدين:

1 ـ بعد لاحق تعكسه تجربة محفوظ الروائية.

2 ـ وبعد سابق تحيل عليه التجربة الأوروبية في الكتابة الروائية.

من خلال البعدين يحق الحديث عن كون هذا التصور في العمق مقارنا، إذا ما لمحنا إلى أن ما من روائي إلا ويتحكم في نتاجه مقروئه الذي يفعل/يتفاعل والتجربة الإبداعية.

إن محفوظ وعلى حد الرأي السابق، واكب تحولات الرواية الأوروبية قراءة قبل أن يحقق إبداعه الدال دلالة قوية عن تمكن، رافق ذلك خيال روائي خصب وخصيب. وما حيازة «نوبل» في الرواية، إلا الاعتراف المعلن بقيمة المنجز عالميا.

بيد أن ما يمكن إضافته إلى هذا التصور بغاية التوسيع، هو الحصر الفضائي للكتابة الإبداعية، وفق ما دلت عليه عناوين أكثر من نص روائي محفوظي: زقاق المدق، وخان الخليلي، والقاهرة الجديدة، ميرامار، حيث اعتبر محفوظ مهندس القاهرة إبداعا وتخييلا، إلى درجة أن العديد من زوار القاهرة حاولوا تقصي تفاصيل الفضاءات المحفوظية ومعاينتها عن قرب، تماما مثلما كانوا يبحثون عن الكاتب خارج نصه، أي في «مقهى الفيشاوي» الذي دأب محفوظ على الجلوس فيه منذ آماد وقبل واقعة الاغتيال السيئة الذكر.

على أنه وبالإضافة إلى الحصر المتمثل في الفضائي، يولي محفوظ القيمة الأساس لبناء الشخصية نفسيا واجتماعيا. والملاحظ أن أكثر من شخصية من شخوصه ظلت منطبعة كأثر في المسار الأدبي الإبداعي، وكأني بها ليست من ورق وإنما من لحم ودم.

لقد حظيت تجربة محفوظ الروائية باهتمام موسع على مستوى النقد الأدبي، ولئن كان المفروض في الراهن إعادة تمثلها بهدف إدراك التحولات التي عرفتها الرواية العربية تأسيسا من تجربته، علما بأن جملة من الدراسات النقدية، غلّبت الإيديولوجي على حساب موضوعية النظر إلى الكتابة الروائية، بما هي الإبداع والخيال أو الصنعة الروائية ككل، حيث يقتضي المقام بالدرجة الأولى، قراءة النص، القراءة الموضوعية، إلى مقارنته بسابقيه مما تحقق إبداعه سواء من طرفه أو من لدن غيره من روائيي مصر والعالم العربي.

تبقى الإشارة في هذه الكلمة المقتضبة إلى الرؤية التي صدر عنها محفوظ في رواياته، وأرمي إلى البعد الفلسفي الذي تحفل به نصوصه: الحياة والموت، الخير والشر، الجمال والقبح. هذا البعد وليد توجه فكري، وبالتالي مرجعي، بحكم أن دراسة محفوظ إلى مقروئه الفلسفي في الجوهر، وهي حكمة الرواية العالمية.

لي أن أتساءل ختاما: من يخلف محفوظ كتابة وإبداعا؟