جمال قطب لـ الشرق الاوسط: محفوظ لم يتدخل في رسوماتي أبدا .. وكنا زميلي عمل جميلين

القارئ الأول لنصوصه ومبتكر أغلفة أعماله منذ أربعين سنة

TT

لم أدرك وأنا أذهب إليه أن كل هذا الحزن يعتصر قلبه على نجيب محفوظ، وشعرت بأنه ربما اختار هذا التوقيت: الواحدة ظهر الخميس الماضي، موعد تشييع محفوظ، ليحتمي بالحديث عنه من كل هذا الألم والحزن.

وبنبرة لا تخلو من الأسى بادرني الفنان جمال قطب، رسام ومصمم أغلفة أعمال نجيب محفوظ، والمشرف الفني على أعمال «دار مصر للطباعة» منذ عام 1965 وحتى الآن، بأنه وافق على إجراء الحوار، واختار هذا التوقيت تحديداً، لينشغل بنجيب وسيرته العطرة، عن متابعة مراسم تشييعه الشعبي والرسمي. وقالها بصراحة «لم يكن في مستطاعي حضور الجنازة، وربما لن يكون بمقدوري المشاركة في العزاء».

وشرد قليلا قبل أن يضيف: «نجيب لم يمت، إنه غياب للجسد والحضور الفيزيائي، لكنه حي في عيون وعقول وقلوب الملايين من قرائه عبر العالم».

لاحظت أنه يرتدي قميصا وبنطالا أبيضين أنيقين، فتأكد حدسي بأنه يحتاج للحديث لينفض عن نفسه الحزن الذي اكتست به ملامحه، وحين بدا على ملامحي الاستغراب والارتباك من كلماته، وقبل أن أستوضحه قال: «كيف يمكنني أن أحتمل أن أراه محمولا على الأعناق مارا من أمام مسجد الحسين والحواري والأزقة التي عشقها، ثم يواريه أحبته التراب، لن أحتمل أن أرى الدموع وهي تملأ عيون محبيه الذين كان يحرص على إدخال السرور إلى قلوبهم، وقلب كل من يراه، حتى من لا يعرفه. لم أره يوما عبوسا، كان دائما بشوشا، الابتسامة لا تفارق شفتيه».

سألته: حدثني عن بداية تعارفكما، متى رسمت غلاف أول رواية لنجيب محفوظ، وما هي؟

أجاب: قبل نحو أربعين عاما، كنت أعمل في «دار الهلال»، وعرض علي عبد الحميد جودة السحار أن أتعاون معه في «دار مصر للطباعة والنشر». هكذا تعرفت على نجيب محفوظ. كنت بالطبع أعرفه كقارئ من قبل، أما أول رواية فلا أتذكر بالتحديد، لأنني رسمت أغلفة كل روايات ومجموعات القصص التي ألفها، حتى تلك التي طبعت من قبل أن أتعرف عليه وعلى السحار، لأنه عند إعادة الطبع كنت أرسم أغلفة وأشرف على التصميم والشكل العام للكتاب المعاد طبعه، الذي صدر من قبل برسوم زملاء آخرين. كل كتب محفوظ عليها رسوماتي... أربعون عاما من التعاون الثلاثي: نجيب، السحار وداره للنشر، وفرشاتي.

وتوقف قليلا، ثم واصل جمال قطب حديثه من دون أن أساله: «آخر مرة رأيته كانت من حوالي ست سنوات، في منزله المطل على نيل القاهرة في حي العجوزة. كانت زيارتي الأخيرة له، وآخر مرة أسمع صوته، وأرى ملامحه، التي طالما رسمتها وسأظل أرسمه ما حييت».

وتوقف عن الكلام كمن يدقق في ذاكرته الثرية، واختلطت في ملامحه ابتسامة ودمعة، وقال: «طوال الأربعين عاما لم أزر نجيب في بيته إلا مرتين، الأخيرة كما قلت كانت من ست سنوات، والأولى كانت قبلها بعامين، وكنت مع ناشره عبد الحميد جودة السحار. في المرة الأخيرة استغرقت الزيارة ساعة ـ وهذا وقت طويل ـ بالنسبة لشخص مثل محفوظ، يقدر قيمة الوقت».

وبدأ يروي أسباب الزيارة فقال: «كان محفوظ يشكو كثيرا من قيام عدد من الناشرين العرب، خاصة بعض الناشرين اللبنانيين بطبع أعماله الأدبية من دون أن تكون هناك اتفاقات أو عقود أو مستحقات لنجيب. يعني كان يعرف أنه تتم سرقة أعماله الأدبية وطبعها في الدول العربية، وخاصة في لبنان بصورة منتظمة سنويا. وكان، ويا للغرابة و«البجاحة»، بعض هؤلاء الناشرين يتصلون بي هاتفيا ويطلبون مني أن أعيد رسم كتب محفوظ من دون علمه، على أن يدفعوا لي من دون أن يدفعوا له. وفى إحدى المرات حدثني صاحب دار نشر لبناني ـ لا أريد ذكر اسمه ـ وكان في زيارة للقاهرة، وهو ممن يطبعون أعمال محفوظ من دون وجه حق، وكان يريد مني أن أذهب معه لزيارة محفوظ، ومساعدته في إقناعه بالموافقة على إبرام عقد لطبع عشر روايات لنجيب خلال عامين. وكان العرض المالي «متواضعا» للغاية، ولا يتناسب مع قيمة ومكانة محفوظ. المهم، أن محفوظ أذن لنا بزيارته، واستقبلنا بابتسامته التي لم تغب عن شفتيه، وأنصت محفوظ للناشر اللبناني، وهو يمزج الإغراء الرخيص بالتهديد المبطن. وكان ضمن ما قاله «أريد أن ابرم معك عقدا، وإلا سنطبع جميع أعمالك من دون موافقتك، وتصرف كيفما تريد أو تشاء». ورد محفوظ بابتسامة أدهشني فيها التسامح والترفع. وحين أبديت انزعاجي مما يحدث، ومما قاله شقيقنا اللبناني، هدأني محفوظ، وقال له: «السد العالي مشروع ضخم وهائل، هل إذا وضعت طوبة فوقه سيتأثر؟». وصمت عن الكلام ففهم الناشر رد محفوظ وانسحب، ومع الأسف واصل طبع أعمال محفوظ من دون الالتزام بحقوق المؤلف المعروفة دولياً». لم يكن قطب يوما من حرافيش محفوظ، ولم يجلس في جلساته الخاصة على الإطلاق، ولم ير زوجته أو بناته إلا في وسائل الإعلام، وحتى عندما مرض محفوظ في فترته الأخيرة لم يقم بزيارته، بل تابع حالته الصحية من الجرائد والفضائيات. وحتى عندما تمت محاولة اغتياله عام 1994 «قمت بالاتصال به هاتفيا فقط». كانت العلاقة بينهما قد تحددت من البداية، على أنها بين مبدعين فنانين. ومن الأفضل أن تبقى في هذا الإطار حتى لا يختلط العمل بالصداقة فيؤثر أحداهما على الآخر. ولا يرى قطب في ذلك غرابة، فيقول: «محفوظ معكتف وناسك في محراب الأدب، إضافة إلى أن فارق السن بيننا 28 عاما، وذلك قد شكل في بداية معرفتنا حاجزا في وجه تطور علاقة تواصل، كتلك التي نشأت بين محفوظ وباقي «الحرافيش» الذين يقاربونه في السن».

سألته: البعض يطلق عليك لقب «رسام محفوظ»، فهل تحب هذا الوصف؟

وأجاب: «نجيب هو أديبي الأول، والمفضل لدي، لكنني ارفض أن أوصف هكذا، وأظن أن ذلك مخالف للواقع، كما أنه لا يمكن أن تعجب مثل هذه التعبيرات نجيب نفسه. علاقتنا كانت عملية ومهنية فقط، وأنا رسمت لكبار الأدباء في العالم العربي، وكانت لي علاقة وثيقة ببعضهم، مثل: يوسف إدريس وثروت أباظة.

ترجم قطب أعمال محفوظ الروائية إلى صور للأغلفة، ورسومات داخلية، فرسم «بنت البلد، والغانية، والفتوة، والعشرات من شخصيات محفوظ الروائية». وكانت أغلفته لا تخلو من صورة لامرأة. وصور النساء المختلفة، تبدو كلها وكأنها ملامح لشخصية واحدة إذا تمعنا في العيون الواسعة، التي تعكس السمات والملامح المصرية.

ويعلل قطب ذلك بأنه حاول ترجمة أعمال محفوظ بخط متواز مع عالمه الأدبي. فمصدر إلهام محفوظ هو الحارة المصرية، والمرأة لها دور لا يمكن الاستهانة به، خصوصا في تلك الأماكن، والعيون إحدى هذه الملامح المعبرة عن الشخصية المصرية.

ويجزم قطب أن محفوظ لم يتدخل في رسوماتي وصوري، ولا لمرة واحدة. وقال: كان محفوظ يقول لي «لكل مبدع موتيفاته ورؤاه الخاصة به، ومن حقه بل من واجبه أن يبرزها»، لكنني مع ذلك لم أظهر أبدا رؤيتي الخاصة في رسومات أعمال محفوظ الأدبية بصورة تتعارض أو تختلف كثيرا عن عالمه، لأنني لو فعلت ذلك، فدوري سيكون ناقصا، ومفسدا لعمل محفوظ».

ويواصل: «دوري الفني يقتضي نقل رؤية الأديب الخاصة، أي لا بد أن يكون الأدب والرسم في الكتاب في اتجاهين متوازيين وليسا متناقضين. فأنا مترجم للعمل الأدبي إلى رسوم وصور، ويمكن القول إن دوري هو «الموازي التصويري» للعالم الأدبي. وليكن معلوما فأنا كنت القارئ الأول لأعمال محفوظ طوال الأربعين عاما، إذا استبعدنا الناشر السحار طبعا، لأن السحار يقرأ العمل مرة واحدة أما أنا فمرات كثيرة».

ويلفت قطب إلى أنه كان يعمل ألف حساب لروايات محفوظ ذات العالم الخاص المستمد من البيئة المصرية الشعبية، والطبقة الوسطى القاهرية، وخاصة مناخ القاهرة التاريخية «الحسين، الجمالية وما حولهما من حوار وأزقة». هذه الأماكن لها رائحة وعبق وخصوصية، لم تتلوث بالتغريب، لذلك كنت أقوم بزيارة تلك الأماكن والتجول فيها لفترات لمشاهدة ناسها على الطبيعة، ولتنشيط مخيلتي الفنية وشحنها من مصدرها المباشر، ثم أقوم بقراءة الرواية أو المجموعة القصصية مرات كثيرة، لكي أستطيع أن أترجم رؤى محفوظ الخاصة. ولا ينفى قطب انه كان يضع في اعتباره عند البدء في التخطيط لرسومات روايات محفوظ أن الكتاب له أيضا صفة تجارية. ويقول:

«نعم الكتاب رسالة إنسانية وثقافية، ولكنه أيضا سلعة تجارية. وهذه السلعة إذا لم تتوافر فيها شروط الجاذبية يصعب أن تحقق النجاح، ويركد توزيع الكتاب، وبالتالي تفشل المهمة الثقافية والرسالة التي يحملها».