صاحب «الثلاثية» تأفف من قيود الوظيفة وتمسك بها حتى الرمق الأخير

غبط العقاد لأنه بقي خارج سلك الدولة قوياً نافذاً

TT

لمدة 37 عاما ظل نجيب محفوظ موظفا, أحيل للتقاعد عام 1971 لكن السؤال بقى يلح على دارسيه ومتابعيه: كيف يمكن لكاتب أن يجمع بين قيود الوظيفة وتحرر الإبداع؟

في حوار صحافي أجرته معه مجلة "الكواكب" عام 1958، سئل محفوظ عن تأثير الوظيفة على إبداعه, فأكد أن الوظيفة تسرق الوقت من الكتابة التي يتم خطف نصيبها من أوقات الفراغ, وأوضح في مرارة:" أحسن ساعات النهار نشاطا تنفق على العمل الحكومي, ولقد اقترحت على وزارة الإرشاد يوما أن تعين الأدباء بمكافآت وأن تقتصر أعمالهم على نصف النهار الأول, على أن تكون هذه المكافآت مجزية حتى يستطيع الأديب أن يتفرغ لعمله فقط". الكلام السابق اعقبته مقارنة:"أين نحن من أدباء الدول الأخرى؟ نحن نعمل حتى الثانية بعد الظهر وبمرتب متواضع, وبالطبع لا ننتج لكننا مضطرون للوظيفة, ولا تسألني عن ثروتي أو ما كسبته من الكتابة, فمكسب الأدب مع الأسف لا يذكر ومن الأكرم ألا يذكر". العمل إذن كان حلا اضطراريا حسبما يؤكد محفوظ الذي عاد بعدها بأكثر من أربعين عاما ليؤكد لرجاء النقاش في كتابه "نجيب محفوظ" أن الوظيفة ذات أثر ضار على المبدع:" لقد أخذت الوظيفة نصف يومي ولمدة 37 سنة وفي هذا ظلم كبير". لكن هل يمكن التعامل مع هذه الأقوال بوصفها مسلمات؟ الحقائق التي ذكرها محفوظ عدة مرات تؤكد أنه بدأ كتابة السيناريو عام 1947 أى قبل أكثر من عشر سنوات من حوار "الكواكب" الذي سبقت الإشارة إليه, وتقاضى محفوظ وقتها مائة جنيه عن الفيلم الواحد وهو مبلغ مرتفع بمقاييس تلك الأيام. هو نفسه اعترف بأنه اتجه إلى السينما لأنها مجزية نوعا ما, واكتفى محفوظ بفيلم فى العام ليتفرغ للإبداع والوظيفة, غير أنه كان يمكن أن يكتفي بالأدب والسينما التي يمكن في هذه الأحوال أن تحل محل الوظيفة وتضمن في الوقت نفسه دخلا اكبر بكثير. فلماذا لم يتخذ محفوظ قرارا كهذا؟ في مذكراته التي كتبها رجاء النقاش تحدث محفوظ عن حرص البعض على الوظيفة باعتبارها القيمة الأكثر حضورا، لأنها تعلى من قيمة البيروقراطية وتستفيد منها في الوقت ذاته:"هذه هى مصر منذ أيام الفراعنة, الفرعون اله, وهؤلاء الموظفون أنبياؤه ورسله, وقد دعم المجتمع هذه النظرة للوظيفة . فالمريض لا يذهب إلى عيادة طبيب، ليس موظفا في وزارة الصحة أو في كلية الطب، والمحامي الشهير الذي يكسب الآلاف سنويا، يترك المهنة وربما يغلق مكتبه ليصبح مستشارا ويعتبرها ترقية. وكما قلت فإن تركيبة المجتمع في مصر على هذه الحال منذ قديم الزمان، ربما منذ أن فكر مينا في توحيد القطرين". هل كان نجيب محفوظ يتحدث عن نفسه في سياق حديثه عن الآخرين؟ وهل ضحى بفرصة التحرر من الوظيفة رغم وجود بديل مجز هو كتابة السيناريو لأنه جزء من تركيبة المجتمع التي يتحدث عنها؟ لايملك أى إنسان إجابة حاسمة على هذين السؤالين, لكن محفوظ في حديثه، كان يبدو معجبا بالعقاد ويعتبره استثناء:"أصبح عظيما ومرموقا بلا وظيفة أو مكانة بيروقراطية, وكان يدافع عن مكانته بكل قوة. وكان أى وزير يتجنب هجوم العقاد عليه لسطوته ونفوذه بين الناس, وهو الوحيد غير البيروقراطي الذي كان يخشاه البيروقراطيون, فهم العقاد أن مصر بلد وظائف". هل كان محفوظ معجبا بالعقاد لأنه فعل مالم يجرؤ هو على فعله؟ ربما, لكن أيا كانت الأسباب التي دعته للتمسك بالوظيفة فقد نجح في الآستفادة منها سواء على مستوى الأداء اليومي أو على مستوى استلهام بعض مفرداتها وشخوصها. فقد وضع لنفسه نظاما صارما, ساعة خروجه في الصباح, مساراته المعتادة التي حفظها كل من يمر عليهم يوميا وفي نفس التوقيت, ساعة العودة إلى المنزل بعد العمل ثم الراحة والوقت المستقطع يوميا للكتابة حتى لو لم تكن هناك رغبة في الإبداع. ثلاث ساعات كل يوم ينفصل فيها عن العالم وربما يقضيها في التأمل منتظرا فكرة, واجازة نهاية الاسبوع التي يتخلص فيها من الجدول المتعارف عليه وأجازة الصيف التي يقضيها في الإسكندرية دون كتابة. إنه نظام معبأ بالطقوس التي أضافت للظاهرة المحفوظية بعضا من ملامح جاذبيتها. تحدث هو نفسه عن ذلك قائلا:"... لكن الوظيفة في الوقت نفسه علمتني النظام, والحرص على أن أستغل بقية يومي في العمل الأدبي قراءة وكتابة, وجعلتني أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة". كما أن الوظيفة أمدته بأنماط بشرية لم تكن لتتوافر في أماكن أخرى, خاصة أنه عمل في أماكن عديدة:" وقد عملت في وزارة الأوقاف, ومجلس النواب وإدارة الجامعة, ففي الأوقاف ألتقي بالمستحقين في الوقف للعائلات القديمة, وفي مجلس النواب كنت أتابع الصراعات الحزبية, وكنت أرد على مشاكل الناس التي تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب. أما في إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى. فبطل "القاهرة الجديدة" عرفته وهو طالب، وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة, ولكن سقوطه بدأ في الجامعة. وبطل "خان الخليلي" كان زميلا لنا في إدارة الجامعة واسمه أحمد عاكف". النماذج عديدة ذكر محفوظ أمثلة منها لرجاء النقاش:"وتجد في أعمالي, خاصة "المرايا", شخصيات عديدة من تلك التي قابلتها في حياتي الوظيفية, ومنها شخصية البطلة في إحدى قصص "المرآيا" والتي أفسدوها وحولوها إلى فيلم "أميرة حبي أنا". أخذت من الجمهور وأصحاب المصالح نماذج لقصصي ورواياتي".

هل كان صبر محفوظ على الوظيفة، نابعا من حاجته كمبدع للارتباط بنماذج بشرية لن يعثر عليها خارج أروقة العمل الحكومي؟ لقد كان واعيا أن الوظيفة أعطته فكرة جيدة عن النظام والبيروقراطية وعرفته بنماذج انسانية كثيرة لتشكل بذلك أحد المصادر الأساسية في أدبه مع المقهى والحارة, هل كان يمكن أن يبتعد محفوظ عن الحارة أو المقهى؟ لايمكن تصور هذا لأنهما رافدان أساسيان في حياته الشخصية والإبداعية, والأمر نفسه ينطبق على الوظيفة التي كان الاقتراب منها مزعجا على المستوى الشخصي لكنه كان حتميا له كمبدع.