الشرق الاوسط تعيد نشر مقالة سيد قطب التي كتبها إثر صدور «خان الخليلي»

مفكر الإخوان المسلمين كان أول من اكتشفه وتحمس له

TT

هذه هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب، سبقتها قصة "رادوبيس" وقصة "كفاح طيبة" وكلتاهما قصتان معجبتان مستلهمتان من التاريخ المصري القديم.

ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحق ان تفرد لها صفحة خاصة في سجل الادب المصري الحديث، فهي منتزعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر، وهي ترسم في صدق ودقة، وفي بساطة وعمق، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الاخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبافكارها وملابساتها، ولا ينقص من دقة هذه الصورة وعمقها انها جاءت في القصة اطارا لحوادثها الرئيسية، وبيئة عاشت القصة فيها.

ولكن هذا كله ليس هو الذي يقتضي الناقد ان يفرد لهذه القصة صفحة متميزة في كتاب الادب المصري الحديث...

انما تستحق هذه الصفحة، لانها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا الى ادب قومي واضح السمات متميز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الاجنبية- مع انتفاعه بها- نستطيع ان نقدمه -مع قوميته الخاصة- على المائدة العالمية: فلا يندعم فيها، ولا يفقد طابعه وعنوانه، في الوقت الذي يؤدي رسالته الانسانية، ويحمل الطابع الانساني العام، ويساير نظائره في الآداب الاخرى.

وهذه الظاهرة حديثة العهد في الادب المصري المعاصر لم تبرز وتتضح الا في اعمال قليلة من بين الكثرة الغالبة لاعمال الادباء المصريين. وهي في هذه القصة اشد بروزا واكثر وضوحا. فمن واجب النقد اذن ان يسجل هذه الخطوة ويزكيها.

وبعد، فقد كنت اود ان اضع امام القارىء ملخصا للقصة يعينه على تتبع السمات الفنية فيها، ويُشركه معي في تحليل هذه السمات. ولكن القصة بالذات من الاعمال الفنية التي لا سبيل الى تلخيصها، وحين تلخص تبدو هيكلا عظيما خاليا من الملامح والقسمات التي تحدد الشخصية، وتبرز مواضع الجمال والقبح فيها... فلا مفر اذن من الحديث العام عن القصة دون الدخول في التفصيلات الا بمقدار.

ليس في القصة كلها صخب ولابريق... انها خلو من الالتماعات الذهنية والافكار الكبيرة. ليس فيها "لافتة" واحدة من اللافتات التي تستوقف النظر. ومحيطها ذاته محيط عادي. واحداثها وحوادثها مما يقع كل يوم في اوساطنا المصرية العادية. اللهم الا تلك الغارات الجوية التي روعت بعض المدن في زمن الحرب والتي روعت اسرة "احمد افندي عاكف"، فأزعجتها عن حي السكاكيني الذي استوطنته زمناً طويلاً، الى الحي الحسيني وخان الخليلي، لتكون في منجاة من الغارات، في حمى ابن بنت رسول الله!

ولقد كان "احمد عاكف"، وهو يعمل عبء الاسرة بمرتبه الصغير، اذ هو موظف بالبكالوريا في قلم المحفوظات بوزارة الاشغال، كان قد أغلق قلبه وطوى احلامه... لم يفكر في الزواج ولم يعد يطمح الى الحب، او الى الشهادة العالية. لقد وقفت امامه العراقيل العائلية والمادية والعلمية، فانطوى على نفسه واستراح الى اليأس بعد الفشل المكرور، وقد ترك هذا الفشل في نفسه مرارة لا تمحى، ولون شخصيته تلويناً معيناً، ودس فيها عيوباً شتى. ولكنه وقد عجز عن الطموح جعل العزوف عن المطامح سلوته، والترفع عن الوسط طابعه وآوى الى مكتبه وكتبه، وهي مثله تمثل جيلاً مضى، وتعرض مباحث قديمة لا صلة لها بالحاضر وما فيه، فزاده بعداً عن الجيل، وايغالاً في التاريخ!

وحينما انتهى من تعليم اخيه الصغير تعليماً عالياً كان قد ناهز الاربعين، كان قد شاخ، فأحس ان الآوان قد فات، وسار في طريقه بقطع الحياة كالأجير المسخر، منطوياً على نفسه، وقد أورثه الفشل والعزلة طابع التردد والتخوف والحذر من كل خطوة ايجابية، فهو يعيش في داخل نفسه عاجزاً عن تحقيق تصوراته وتجسيم خيالاته.

ولكن القدر الساخر لا يدع الناس يستريحون ولو راحة اليأس المريرة – انه يطلع على هذا الكهل – كما يسميه المؤلف – وجه جميل يلوح له في النافذة المقابلة. انه وجه فتاة صغيرة لا تزال طالبة بالمدرسة. انها تصلح ان تكون ابنته... ولكن هذا الوجه يبسم له، فيثير في نفسه كوامن المشاعر النائمة، على حين يدركه حذره وتردده، وخجله من فارق السن السحيق.

وتمضي الأيام وهو في شغل معقد مقيم بهذا الحادث الجديد الذي يهز كيانه الضعيف هزاً عنيفاً متواصلاً بين الاقدام والاحجام، ويبدع المؤلف في تصوير شتى النوازع والاتجاهات في هذه النفس المعقدة. وفي نفس الفتاة الانثى المهيأة لحياة البيت والزواج.

وفي اللحظة التي يكاد يقدم فيها على الخطوة الحاسمة في حياته، وقد تندى قلبه الجاف، وترعرعت البذور المطمورة في أعماقه تحت اكداس اليأس والفشل والتردد... في هذه اللحظة الحاسمة يسخر القدر سخريته العابثة فيطلع له في الميدان منافساً قوياً لا يملك منافسته، بل لا يملك حتى ان يشفى نفسه منه بالحقد عليه! انه اخوه وربيبه "رشدي عاكف". لقد نقل في هذا الوقت من فرع "بنك مصر" في أسيوط الى المركز الرئيسي بالقاهرة. وانه لا يعلم من امر اخيه الكبير شيئاً. انه شاب جسور مغامر بل مستهتر، حاد العاطفة لا يعرف التردد ولا الحذر... انه الوجه المقابل لصورة اخيه.

وفي اليوم الأول يلمح الوجه الجميل فيستهويه. عندئذ يسلك الى الفتاة طريقه المباشر في غير ما حذر ولا تردد، ويقطع الطريق الذي أنفق اخوه في قطعه أشهراً... في يوم أو يومين. فيتصل ويصبح حبيباً ومحبوباً، وفرداً من اسرة الفتاة... ! وأخوه يتطلع الى هذا الانقلاب في دهشة بالغة وفي ألم كسير وفي يأس مرير، وفي اعجاب كذلك بأخيه الجسور!!!

ويقضي الشاب مع فتاته أويقات حلوة، يسكران فيها بكأس الحب الروية، ويقطفان معاً اجمل زهرات الحب الجميلة... وذلك ريثما يضرب القدر ضربته الاخيرة، فيمرض الشاب المغامر بالسل نتيجة لافراطه في الشراب والسهر مع رفاق حي السكاكيني. ولكنه يمضي في استهتاره ثقة بشبابه، وخشية ان يعلم الناس بمرضه، وان تعلم من الناس خاصة هذه الفتاة!

وفي اللحظة التي يلمس الحب الحقيقي قلبه العابث، فيملؤه جداً، ويتوجه الى اتخاذ خطوة عملية حاسمة تكون الاقدار قد ضربت ضربتها الاخيرة فيستشري الداء في الصدر المسلول، ويذهب الشاب بعد ليلات مريرة من الضنى والعذاب، وبعد ان تبين ان فتاته الحبيبة تخشى منه العدوى فلا تراه!

ثم تغادر الاسرة الحي في النهاية... تغادره وقد فقدت الشاب الصبوح الفتي الجريء. وقد انطوى قلب عاكف على جرح جديد بل على جرحين في جرح. والاقدار تسخر سخريتها الدائبة. ودورة الفلك تمضي الى مداها. كأن لم يكن قط جرح ولا جريح!!!

حياة هذه الاسرة وجروحها واحداثها واحاديثها هي محور القصة، وقد ادار المؤلف حول هذا المحور حياة اهل القاهرة في هذه الفترة من فترات الهول ايام الغارات، فعرض منها لوحات بسيطة صادقة تشبه في بساطتها وصدقها فطرة هذا الشعب الطيب الفكه المؤمن المستسلم للقدر، المتأثر بشتى الخرافات والدعايات. ومن بين الصور التي عرضها صورة مقاهي خان الخليلي و"غرزه" ايضا. وقد حوت اشكالا وشخصيات لم تكن لتجتمع الا في مثل هذا الحي الغريب حقا، كما رسم صورة مقاهي حي السكاكيني و"شلل" الشبان فيه! وسجل اطوار المقامرين ومجالسهم رسما قويا في جو مزيج من الجد والدعابة! ولقد كان الاطار من مكملات الصورة الاصلية كما كانت الريشة في يد المؤلف هادئة وئيدة، فوفق في ابراز الملامح والقسمات الجزئية، وساير الحياة مسايرة طبيعية بسيطة عميقة، منتفعا الى جانب مهارته الفنية بمباحث التحليل النفسي، دون ان يطغى تأثره بها على حاسته الفنية الاصيلة. وعاشت في القصة عدة شخصيات من خلق المؤلف لا تقل اصالة عن نظائرها في الحياة!

ولكن ليست المهارة الفنية في التسلسل القصصي، والبراعة الصادقة في رسم الشخصيات، والدقة التامة في تتبع الانفعالات... ليست هذه السمات وحدها هي التي تعطي القصة كل قيمتها... ان هناك عنصرا آخر هو الذي يخرج بالقصة من محيطها الضيق، محيط شخصياتها المعدودة، وحوادثها المحدودة في فترة من فترات الزمان، الى محيط الانسانية الواسع، ويصلها هناك بدورة الفلك وحلبة الابد...

انك لتقرأ ثم تطويها، لتفتح قصة الانسانية الكبرى... قصة الانسانية الضعيفة في قبضة القدر الجبارة. قصة السخرية الدائبة التي تتناول بها الاقدار تلك الانسانية المسكينة.

هذه اسرة تفر من هول الغارات وخطر الموت من حي الى حي. فما تغادر هذا الحي الآمن! الا وقد اصابها الموت في انضر زهرة واقوم عود!

وهذا رجل شاخ قلبه، وانطوى على نفسه، وآوى الى يأس مرير ولكنه هادىء ساكن. فما يلبث القدر ان يثير في قلبه اعصارا على غير اوان، ويزيح الركام عن البذور المطمورة في قلبه الهرم، ليعود فجأة فيقصف الاعواد التي تنبت في بطء وحذر. يقصفها في قسوة عابئة، وبيد من؟ بيد احب الناس اليه: شقيقه وربيبه! ولو قد امهله بضعة ايام لانتهى الى الواحة الممرعة بعد طول الجدب في الصحراء. ولو قد تقدم به اياما لاعفاه من اضافة تجربة فاشلة الى تجاربه المريرة!

وهذا شاب مستهتر عابث، ما يكاد الحب يقومه، ويبعث فيه الجد والمبالاة حتى يخطفه الموت، الذي لم يخطفه ايام العبث والاستهتار!

والارض تدور، والزمن يمضي، والناس يقطعون الطريق المجهول كأن لم يكن شيء مما كان: رفاق الشاب في قهوتهم يقامرون ويعربدون، واصحاب الرجل في "غرزتهم" يدخنون او في قهوتهم يتندرون. والقدر الساخر من وراء الجميع لا يبدو عليه حتى مظهر الجد في سخريته المريرة. والمؤلف نفسه لا يكاد يلتفت الى الدائرة الوسيعة التي تنتهي اليها قصته، لانه يلقى انتباهه كله الى ادارة الحوادث ورسم الشخصيات!!!

ولعل من الحق حين اتحدث عن قصة "خان الخليلي" ان اقول: انها لم تنبت فجأة، فقد سبقتها قصة مماثلة، تصور حياة اسرة وتجعل حياة المجتمع في فترة حرب اطارا للصورة... تلك هي قصة "عودة الروح" لتوفيق الحكيم. ولكن من الحق ايضا ان اقرر ان الملامح المصرية الخالصة في "خان الخليلي" اوضح واقوى، ففي "عودة الروح" ظلال فرنسية شتى. والمع ما في "عودة الروح" هو الالتماعات الذهنية والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية، اما "خان الخليلي" فافضل ما فيها هو بساطة الحياة، وواقعية العرض، ودقة التحليل. وقد نجت «خان الخليلي» من الاستطرادات الطويلة في «عودة الروح». فكل نقط الدائرة فيها مشدودة برباط وثيق الى محورها.

وكل رجائي الا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب، فما يزال امامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء الى خصائصه، واتخاذ اسلوب فني معين توسم به اعماله، وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته، وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه.

وبعض هذه الخصائص قد اخذ في البروز والوضوح في قصصه السابقة وفي هذه القصة، وهي الدقة والصبر في رسم الخوالج والمشاعر وتسجيل الانفعالات المتوالية، والبساطة والوضوح في رسم صورة لحياة ابطاله.

والبقية تأتي ان شاء الله!

* نشرت هذه المقالة في مجلة "الرسالة"، العدد 650 يوم 17 ديسمبر 1945. وهي واحدة

من عدة مقالات كتبها قطب عن محفوظ.