من كتابة السيناريو إلى قصّ الأفلام ومنعها .. مغامرة أديب مليئة بالمتناقضات

السينما أعطته الكثير وسلبت شخصياته أعماقها

TT

بدأت علاقة نجيب بالسينما عندما كان طفلا في الخامسة، وقتها اكتشف هذا العالم الساحر، من خلال زياراته لصالة في حي الحسين اسمها «الكلوب المصري» بصحبة خادمة لهم. عالم ساحر، قد يخلب لب أي طفل، لكنه يحتاج إلى شروط خاصة تجعل الطفل ينتقل، في ما بعد، من كرسي المشاهد إلى دائرة صانع السينما. غير أن نجيب كان مكتفيا بالكرسي الذي يكفل له لحظات من السعادة.

بدأ في نشر رواياته، ولم يكن في باله أن يرتبط بمجال السينما، لكن الأحداث كانت تمضي في مسار آخر لدى المخرج الكبير صلاح أبو سيف، الذي قرأ رواية «عبث الأقدار»، واكتشف من خلالها أن الكاتب يملك القدرة على ان يكون كاتب سيناريو متميزا، سعى إليه عن طريق صديق مشترك، لكن محفوظ رفض دخول مجال لا يعرفه. أقنعه الصديق بأن أبو سيف سيتولى مهمة تعليمه، وذكره بالدخل المحترم الذي سيعود عليه من كتابة السيناريو، وهو الذي ينفق من دخله على الأدب. النتيجة تؤكد أن الاتفاق قد حدث بين الكاتب والمخرج، فقد كتب محفوظ للسينما عددا من سيناريوهات الأفلام من بينها: «عنتر وعبلة»، «ريا وسكينة»، «احنا التلامذة»، «درب المهيبيل»، «لك يوم يا ظالم»، «شباب امرأة»، «بين السما والأرض»، وغيرها. كان يشعر أحيانا بالضيق من السينما، لأنها عمل جماعي لا يجعله ينفرد بالرؤية، لكنه انجذب إليها وسجل اسمه في نقابة المهن التمثيلية كسيناريست محترف. وحتى منتصف عقد الخمسينات تقريبا، لم ينتبه أحد من المخرجين إلى أن كتابات نجيب محفوظ نفسها، يمكن أن تكون رافدا مهما للأفكار السينمائية. لكن الأمر اختلف عندما حول أحمد عباس صالح رواية «بداية ونهاية» إلى مسلسل إذاعي، تابعه المنتج والمصور السينمائي عبد الحليم نصر، وقرر شراء الرواية لاستغلالها سينمائيا. ولم يفكر محفوظ في أن يكتب سيناريو هذا الفيلم أو حتى يشارك فيه، وهو ما امتد إلى بقية الأعمال الفنية المأخوذة عن إبداعاته. كان يترك لصناع الفيلم حرية التعامل مع إبداعه كما يشاؤون، لدرجة أن البعض رأى أن ثمة أفلاماً شوهت تماما قصص نجيب محفوظ، باعتمادها على تفاصيل هامشية تخدم التوليفة التجارية أكثر من خدمتها لرؤية المؤلف. ويبدو أن الأمر قديم، فقد سئل محفوظ في جريدة «الأهرام» عام 1959 عن موقفه عندما يرى قصته على الشاشة وقد «تبهدلت»، فقال: «ولا حاجة، أعمل إيه؟ أنا لا أشترط أبدا المحافظة على كتاب لي عندما أقدمه للسينما، أو المسرح، لأن هذا الاشتراط فيه تعسف. أعتقد أن مسؤولية الكاتب محدودة بما يكتب، والذين يشترون منك الرواية، كما هو معروف، لهم وجهات نظر خاصة».

وجهة نظر محفوظ استمرت خلال العقود التالية كما هي، وهو ما زاد الفجوة بين إبداعه المكتوب وذلك الذي يتم تجسيده على الشاشة، إلا في حالات استثنائية. في عام 1993 نالت الباحثة أميرة الجوهري درجة الدكتوراه من معهد النقد الفني عن «شخصيات نجيب محفوظ في السينما».

تناولت الرسالة عددا من أعماله، التي انتقلت إلى السينما، لتصل إلى نتيجة صادمة لكنها ليست مفاجئة بدورها، فقد مالت السينما المصرية ـ حسب الباحثة ـ نحو التركيز على الأحداث الظاهرية، من دون اهتمام كاف، بدلالات الوصف المجرد لما يدور داخل وجدان الشخصية، كما ضحى صناع أفلامه بسمات أساسية في الشخصية وقاموا بتضخيم أخرى، في محاولة لاجتذاب الجمهور. وتشير الدكتورة أميرة الجوهري إلى أن ذلك ظهر بوضوح في «بين القصرين» و«قصر الشوق»، حيث تم التركيز على سهرات سى السيد ومغامراته الجنسية على حساب الجانب المشرق في شخصيته. وهو ما تكرر مع شخصية حميدة في «اللص والكلاب» وصابر في «الطريق». كما أن السينما المصرية خلال تهافتها على أدب نجيب محفوظ، لم تعرف كيف تفرق بين ما يصلح تحويله إلى عمل فني وما لا يصلح لذلك. فهناك فارق كبير بين لغة الرواية، التي تتمتع بمرونة كبيرة في التعامل الوصفي مع الأفكار العقلية والتجريدية والمشاعر الداخلية للشخصية، ولغة السينما التي تعتمد على الصوت والصورة، وقد لا تنجح في إيجاد معادل سينمائي لهذه الأفكار. وهو ما حدث في فيلم «الشحاذ»، الذي فشل في تصوير أزمة عمر الحمزاوي، التي تعتمد أساسا على خواطره ومشاعره الشخصية. نجيب محفوظ كان يتغاضى عن كل ذلك، مؤكدا أن معايير السينما تختلف عن معايير الأدب وأن عمله عندما ينتقل إلى الساحة الفنية، يصبح مجرد مادة خام يتم التعامل معها وفقا لقواعد السينما. لم يعترض ولم يبد رأيا إلا في مرات قليلة عابرة، منها إشارته السريعة إلى إحدى قصص «المرايا» التي «أفسدوها وحولوها إلى فيلم «أميرة حبي أنا».

عموما ستظل الآراء حول المعالجات السينمائية لأدبه محل اختلاف، لأن الذائقة ليست واحدة، رأيه هو شخصيا يتعارض بعض الشيء مع جانب من نتائج الدراسة السابقة. ففي حوار لجريدة «الأهرام» في أكتوبر (تشرين الاول) 1996، بمناسبة تكريمه في مهرجان فالنسيا، باعتباره واحدا من أفضل كتاب السيناريو، أكد محفوظ أن المعالجة السينمائية لرواية «بين القصرين» و«اللص والكلاب»، »هي من أفضل الأفلام، التي عبرت عن مضمون النص، وعموما أنا أعتقد أن كل الأفلام التي تناولت رواياتي لم تسئ إلى النص».

ستظل العلاقة بين أدب محفوظ والأفلام المأخوذة عنه محل جدل، لكن الثابت أن نجيب محفوظ أسهم مع أدباء آخرين كإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، في تغيير خريطة المشهد السينمائي المصري والعربي. ويكفي أن الراحل سعد الدين وهبة عندما أعد قائمة بأفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، اكتشف أن من بينها 17 فيلما كتب لها محفوظ السيناريو أو أخذت عن رواياته وقصصه.

ثالث تعامل بين نجيب محفوظ والسينما يبدو غريبا للبعض، فقد تولى مسؤولية الرقابة على الأفلام. لكن، كيف يمكن لمبدع ينحاز الى حرية الإبداع أن يمسك بمقص الرقيب. أجاب محفوظ عام 1959 في جريدة «الأهرام»، بعد أن تولى المنصب قائلاً: «اختلاف درجات النضج بين الناس يستلزم الرقابة، والرقابة شر لا بد منه، صحيح أن الفن لا يعيش من غير الحرية المطلقة، لكن بعض الفنون المنتشرة انتشارا واسعا، كالسينما، تستدعى الرقابة، بشرط أن تكون رقابة موجهة نحو القيمة الفنية»، وقتها توقف عن كتابة السيناريو، لكي لا يفاجأ بنفسه في موقع الخصم والحكم، أما افلامه التي كان قد تعاقد من أجلها فعليا، فأحالها إلى وكيل الوزارة ليتولى تقييمها بحياد. لكن كيف كان اداؤه عندما تولى الرقابة، يحكى نجيب لرجاء النقاش بعضا من المواقف التي تبنى فيها فكرة المنع أو الحذف فيقول:

«اختلفت ذات مرة مع مدير الرقابة على الأفلام، محمد علي ناصف، لأنه سمح بعرض فيلم يسيء إلى اليابان، وكنت أرى ضرورة منعه من العرض. فاليابان في ذلك الوقت كانت قد وقفت الى جانب مصر والرئيس عبد الناصر، وساندتنا ضد أميركا. واستند ناصف في موقفه الى العلاقة القوية التي تربطه بالمشير عبد الحكيم عامر وسمح بعرض الفيلم. وفي اليوم الأول للعرض ـ بعد حفلة العاشرة صباحا ـ في دور السينما، كان السفير الياباني في مكتب عبد الناصر لتقديم احتجاج.

وأمر عبد الناصر برفع الفيلم من دور العرض فورا». الواقعة الثانية كانت في أحد أفلام عز الدين ذو الفقار: «رأيت حذف بعض الأغاني لأن المطربة صباح تؤديها بطريقة مثيرة، وألحان عبد الوهاب لهذه الأغاني كان فيها إثارة جنسية فاضحة، ولأن عز الدين ذو الفقار كانت له علاقة قوية بالضباط الأحرار، فقد استطاع بنفوذه استصدار قرار بتشكيل لجنة للفصل في أمر تلك الأغاني. وأيدتني اللجنة بإجماع الآراء وأقرت ضرورة حذف الأغاني». لكن بغض النظر عن هذه المواقف وغيرها يرى نجيب محفوظ أنه أضاف فكرا وأسلوب أداء جديدين للرقابة، التي استمر عمله فيها لمدة عام ونصف العام تقريبا، حتى خرج منها في أحد توابع أزمة «أولاد حارتنا» بعد أن شن وزير الاقتصاد وقتها حملة في مجلس الوزراء ضد الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة، لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل متهم في عقيدته الدينية! بعدها بسنوات تولى مسؤولية مؤسسة السينما وقرر وقتها منع الأفلام المأخوذة عن أعماله سينمائيا، حتى أنه أوقف فيلم «السراب» الذي كان معدا للتصوير بالفعل، المبرر كان غريبا، فقد أكد أن روايته تتعرض لمشكلة فردية لا تخدم مجتمعنا الجديد!