مقالات نجيب محفوظ وأحاديثه الصحافية تكشف خبايا تمنى لو يطويها النسيان

منذ التاسعة عشرة من عمره سجل فيها خلجات فكره وقلبه

TT

بعيد رحيل نجيب محفوظ، سئل صديقه الروائي المصري جمال الغيطاني في احدى الفضائيات عن رأيه في مضمون مقالات الراحل وأحاديثه المنشورة، فاكتفى بما قاله له محفوظ حين طرح عليه السؤال نفسه، وهو «طي صفحة تلك المقالات ونسيان ما تنطوي عليه من بعض آرائه الاجتماعية والسياسية والثقافية والتقليدية». وهو أمر مستهجن، فهذا الإرث الصحافي الذي تركه وراءه محفوظ يستحق العودة اليه بعمق لاستشفاف مواقفه، ومدى تطورها وتقلبها. في هذه المقالة نعود إلى بعض هذه الكتابات باحثين عن بعض خبايا الرجل وخفاياه التي لم تبح بها رواياته.

رجحت كفة المنهج المدحي على المنهج النقدي في ميزان معظم الكلمات التي قيلت، بمناسبة رحيل الاديب الشهير نجيب محفوظ. ويعود ذلك الى الاعتقاد السائد والخاطئ في عالمنا العربي الذي يقضي بالتعتيم على اخطاء المبدع ـ وأي انسان ـ بمناسبة رحيله. كذلك، تمحورت التغطية على روايات محفوظ دون سائر نتاجه، وبخاصة مقالاته وأحاديثه المنشورة في الصحف. وسر ذلك ان الراحل نال جائزة نوبل للآداب على رواياته، ناهيك بأنه الاديب العربي الوحيد الذي منح تلك الجائزة. ولكن، رغم طغيان المديح على النقد، فالخلاف بين الكثرة التي مدحت روايات محفوظ والقلة التي انتقدتها، بقي في اطار التقييم الايجابي ونسبته، ولم يصل الى المستوى الذي يرى فيه ناقد ان روايات محفوظ متميزة بشكلها وممتازة بمضمونها الاصلاحي التقدمي، فيما يعتبرها ناقد آخر عكس ذلك.

فهل تكون آراء محفوظ في مقالاته وأحاديثه تقدمية اصلاحية كما هو حال آرائه في رواياته؟

ولكن نتاج محفوظ في فن المقالة، اضافة الى احاديثه الصحافية، جزء لا يتجزأ من نتاجه الأدبي، وقد تلاحقت حلقاته في سلسلة طويلة استهلت منذ اوائل ثلاثينات القرن الماضي. وهناك عامل آخر يدعو الى عدم طي صفحة تلك الاحاديث والمقالات اضافة الى عامل حجمها الكبير، وهو رأي محفوظ المباشر في السياسة والثقافة والاجتماع، والذي يفسر مواقفه الاصلاحية ومدى تجسيده لآرائه السياسية والاجتماعية التي ضمنها رواياته بصورة مداورة.

تحت عنوان «احتضار معتقدات وتولد معتقدات» نشر نجيب محفوظ باكورة نتاجه في فن المقالة، في «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها الكاتب النهضوي سلامة موسى، وكان في التاسعة عشرة من عمره. احتلت المقالة المنشورة في العدد الصادر بتاريخ 1 اكتوبر (تشرين الاول) 1930 ثلاث صفحات كاملة. مهد الكاتب الناشئ لرأيه الاصلاحي المحدد بمقدمة طويلة أكد فيها عدم حزنه «بقرب زوال المعتقدات البالية». ذلك ان «العقل يهدم المعتنقات القديمة لأنه أصبح لا يستسيغها او لأنه ارتقى لدرجة اصبح نقده لهذه المعتنقات ضرورة لأزمة لا دخل فيها للاختيار والتدبر». وسواء حزن البعض لزوال المفاهيم التقليدية او فرح البعض الآخر، فالنتيجة لا تتبدل، لأن «مناهضة الحركات التجديدية انما هي مناهضة لإحدى سنن الطبيعة التي لا تناهض ولا تغلب». ولكن ما هي الحركة التجديدية التي سيكون لها الفوز في مصر وعموم الكرة الارضية؟ طبعاً هي «الاشتراكية» التي رفع لواءها اللبناني المتمصر الدكتور شبلي شميّل لأول مرة في العالم العربي، وكان سلامة موسى من أنجب تلامذته. وقبل ان يتهمه البعض بالتطرف، يسرع محفوظ الى القول إن النظام الاشتراكي الذي يدعو اليه يتوسط «نظامين يتأفف منهما المتدينون وهما: الشيوعية والفردية». ويختم برأي علمي قلما ورد في أدبيات الاشتراكيين ومنهم شميّل وسلامة: «ليست الاشتراكية نهاية ما يمكن ان يتطور اليه النظام الاجتماعي. وعليه، فالتطلع للأحسن سيدفعنا دائماً للتنقيب عما فيه سعادتنا ورفاهيتنا». لعل أهم ما يمكن استنتاجه من باكورة مقالات محفوظ، هو الاعتدال في الرأي الاصلاحي الذي صاحب نهجه حتى لحظة رحيله. واذا كان اعتداله السياسي النهضوي مفهوماً في مرحلة نضوجه وشيخوخته، فهو نادر الحدوث لدى شاب في مطلع حياته. وقد تأثر بمصلح متطرف، هو أستاذه سلامة موسى الذي تأثر بدوره بمصلح اكثر تطرفاً وهو الطبيب الاشتراكي شبلي شميّل. وهذا الاعتدال الباكر يفسر رغبة نجيب محفوظ بالابتعاد عن أي مواجهة سياسية للحكام واكتفائه بتوجيه انتقادات خجولة ومداورة لهم.

ولكن النهج المعتدل لا يفسر ولا يبرر بعض الآراء التي وردت في هذا المقال او ذاك الحديث لحائز جائزة نوبل. وعلى سبيل المثال، فقد اعتبر محفوظ ان قرار وزارة الثقافة المصرية القاضي بتفرغ الادباء والفنانين «سيساعد الادباء على اجادة اعمالهم الادبية والفنية». بل انه وافق على «المبالغ التي قررت للتفرغ. انها مكافآت كافية باعتبار ان الادباء طبقة فقيرة لدرجة ان هذه المبالغ تعتبر كبيرة جداً عليهم». في حين اعتبر يوسف السباعي ان التفرغ الدائم شيء يجب ان نقاومه، لأنه سيخلق طبقة من تنابلة الأدب». اما الدكتورة بنت الشاطئ فقد فضلت «لو ان الدولة تشجع الاعمال الادبية القيمة.. لأن التفرغ يضر بالأدب».

وفي السياق نفسه، دعا في مقاله الاسبوعي «وجهة نظر» الاذاعة المصرية «ان تتحول الى قيادة ثقافية بقدر ما هي قيادة اعلامية في معركة الفكر والوجدان». وجاءت الدعوة اثر الركود الذي «تعرض له النشاط الثقافي والفكري»، وبعد ان «أعيد تنظيم الجهاز الثقافي في الدولة ودعي المثقفون على اختلاف رؤاهم وتياراتهم لحمل امانة المسؤولية لعمل كل ما من شأنه تهيئة المناخ الصالح النقي لازدهار الفكر والابداع». «الاهرام 30/ 10/ 1980» .

والغريب في آراء محفوظ الداعية الى تعزيز القطاع الثقافي والاذاعي العام، انها صدرت في الوقت الذي دعا الآخرون، وبعضهم من الذين منحوا جائزة نوبل ورفضوها، ليس فقط الى ابتعاد الادباء والفنانين عن مؤسسات الدولة، بل وإلغاء وزارتي الاعلام والثقافة.

ولكن محفوظ كان منسجماً مع نفسه حين اطلق تلك الآراء. فقد امضى حياته موظفاً في القطاع العام. وهنا، هو يشبه عبد الرحمن الكواكبي الذي تولى العديد من المناصب الرسمية الرفيعة في ولاية حلب. الا ان الفرق بين الرجلين، ان محفوظ كان يتجنب الصدام مع رؤسائه، فيضمن استمراره في «نعيمها». في حين لم يستمر الكواكبي اكثر من عام واحد في اية وظيفة تسلمها. ومع ذلك، فالكاتبان استفادا من تجربة الوظيفة. فقد جاء «طبائع الاستبداد» خلاصة لما اختبره الكواكبي في موضوع الاستبداد من خلال ممارسته للوظيفة، اكثر من قراءته لكتب النهضوي الايطالي ألفييري، بينما يقول محفوظ: «استفدت من الوظيفة. انعكس ذلك على شخصيات رواياتي. «ثرثرة فوق النيل» مثلاً كان أبطالها موظفين». (الاهرام 26/9/1971)

طبعاً، هذا لا يعني ان احاديث محفوظ ومقالاته قد خلت من الآراء التقدمية والعلمية.

ولنأخذ في سبيل المثال ما كتبه في 16 اكتوبر (تشرين الاول) 1980 في زاوية «الاهرام» الاسبوعية «وجهة نظر». فقد انزعج محفوظ من انزعاج البعض من نقد السينما والتلفزيون لسلبيات المجتمع، ومطالبتهم بـ «الرقابة والمصادرة» لأنه بنظرهم «تشهير بالوطن». ودعا الى التفريق «بين فن جاد يعالج بجدية وفي نطاق الالتزام، ظواهر اجتماعية وانسانية خطيرة مثل الجريمة والجنس، وبين فن تجاري ينقض على هذه الظواهر للاثارة وتفجير الغرائز. ذلك ان المجتمع المتطلع للأفضل بصدق وعزيمة لا يخاف النقد ولا يدعو للتستر على العيوب، ولكنه يرى في ملاحقتها وسيلة ناجحة فعالة للاصلاح والتطهير». ذلك ان الفن في النهاية «ثقافة وليس دعاية او سياحة»، وان هدف اهل الاصلاح «ايجاد مجتمع نظيف صادق لا فيلم نظيف زائف».