إنه مهندس القاهرة القديمة وليس مؤرخا لها أو مصورها

جغرافيا من صنع الخيال وأحياء لا تشبه نفسها

TT

البعض يظن أن نجيب محفوظ أرّخ للقاهرة القديمة، وكان توثيقيا وتصويراً في ما يخص قراءته للمكان وسير بني الإنسان، لكن المتأمل الذي يقارن بين أمكنة نجيب محفوظ الشهيرة، مثل «زقاق المدق» و«بين القصرين» و«خان الخليلي»، كما رسمها في رواياته، وكما هي في الحقيقة، يدرك أن الرجل كان تخيليا إلى حد كبير، وأنه لم يؤرّخ بقدر ما استلهم، ولم يصور بقدر ما أعاد ابتكار الأماكن وفق هواه ورؤاه الخاصة. زيارة للأماكن الشهيرة التي خلّدها محفوظ تؤكد انها عنده لا تشبه ذاتها، وأنه لم يكن مرآتها، وإنما مصنعها ومفبركها، ومهندسها الذي بناها وفق مزاجه الخاص.

في بيت القاضي ولد نجيب محفوظ. المكان، حتى الآن، ما زال مفعما بعبق غامض يضفي عليه سحرا خاصا، فكيف كان حاله في العقد الثاني من القرن العشرين؟ لا شك أنه كان يحمل ملامح أسطورية لطفل لا ما زال في طور اكتشاف العالم. طبيعة الطفل الذي يحمل بذرة الإبداع بداخله تفاعلت مع الحي، وما يحيط به لتنتج حالة خاصة جدا يصفها الأديب الراحل للناقد رجاء النقاش فيقول: «عندما أسير فيه أشعر بنشوة العشاق. كنت أشعر دائما بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي». الكتابة إذن لم تكن حتمية إبداعية فقط، لكنها كانت حيلة نفسية للتغلب على حنين لا يهدأ، إنها حالة لا تخص المكان فحسب وإلا كان الانتقال المادي إليها ميسورا، لكنها حالة مركبة تلك التي تجعل الشرقيين يحنون إلى ما مضى، إنها حالة متكاملة يتداخل فيها الزمان والمكان مع الحنين والشجن، مع الواقع والخيال، لتكون النتيجة خمس روايات تحمل أسماء أماكن ارتبطت بها ذاكرة المبدع وهي: «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، «زقاق المدق»، و«خان الخليلي». لكن بروز أهمية الأماكن لم يقتصر على هذه الروايات، بل امتد الى روايات ومجموعات قصصية اخرى عديدة، نجحت معا في خلق عالم مواز، يبدو حقيقيا لكنه غير حقيقي، وقد يبدو لآخرين خياليا، لكنه ليس كذلك. في قصص الخيال العلمي تبدو فكرة العوالم الموازية أكثر حضورا، وهي تقوم ـ باختصار ـ على افتراض وجود عوالم أخرى موازية لعالمنا يعيش فيها أشخاص يشبهوننا تماما، بل هم نحن لكن في سياقات أخرى، الفكرة تبدو مناسبة تماما لتحليل علاقة محفوظ بالمكان والبشر.

فهو يكتب عن المكان الموجود، لكن بعد إعادة صياغته وفقا لخياله كمبدع، إنه يرصد الواقع لكن لا يوثقه، لهذا يمكن لأي إنسان أن يحاول رصد بعض الأماكن التي ورد ذكرها في عمل لنجيب محفوظ، لكنه سيفاجأ بأن المكان المذكور لا يمكن بأي حال أن يكون قد احتل الموقع المشار إليه في العمل.

قبل سنوات خاض الأديب جمال الغيطاني تجربة شبيهة، ونظرا لنشأته في نفس الحي الذي ولد فيه محفوظ، كان الغيطاني هو الأقدر على أداء هذه التجربة، ليكتشف عدة مفاجآت، من بينها أن نجيب محفوظ لم يتقيد بجغرافيا المباني ولجأ إلى تشكيل عالم خاص به اعتمادا على خياله. فبيت السيد أحمد عبد الجواد الذي تدور فيه معظم أحداث الثلاثية كان يقع حسب الروايات الثلاث في شارع بين القصرين، الذي تحول اسمه إلى المعز لدين الله. امسك الغيطاني بالرواية وتابع وصف الموقع كما ذكره نجيب محفوظ، وكتب: «الملاحظة الأولى التي تستوقفنا هنا أن المكان يخلو تماما من البيوت السكنية، وأقرب المباني السكنية تقع في الخرنفش إلى الشمال، وفي حارة الصالحية إلى الجنوب. لقد حدد نجيب محفوظ مكان البيت الذي ستدور فيه معظم احداث الثلاثية، حدد مكانه في مواجهة سبيل بين القصرين، والسبيل موجود بالفعل لكن في مواجهته يقوم مسجد برقوق الضخم، أي أن المنزل في الرواية يحتل مكان المسجد، ويقوم في مكان لا توجد به أي بيوت مسكونة، كما انه يصف مآذن برقوق وقلاوون من خلال عيني أمينة، وحتى يمكن لها أن ترى المئذنتين فلا بد أن يكون موقع البيت على الناحية الأخرى».

لكن نقل المنزل إلى الناحية الأخرى، لكي يصبح مناسبا لاتجاه نظر أمينة كما ورد في الرواية، سيجعله يخالف وصف محفوظ له، بأنه يواجه سبيل بين القصرين، لأنه سينتقل في هذه الحالة إلى نفس الصف الذي أقيم عليه السبيل. علاقة نجيب محفوظ بالمكان، تجعل احتمالات الخطأ في جغرافيا المباني غير واردة، لأن الأماكن السابقة لا تبدو غامضة سوى لمن لا يعرفها إلا من خلال القراءة عنها، أما من يزورها ولو لمرة واحدة، فسيجد أنها استقرت في ذاكرته، هنا يكون البديل المطروح والأقرب إلى المنطق أن نجيب محفوظ كان يشكل عالمه الخاص، بمواصفاته هو وليس طبقا لما هو كائن بالفعل.

الأمر يمتد إلى كل الأماكن التي دارت فيها «الثلاثية»، فزيارتها مثلا ستبعث على الدهشة، خاصة إذا وضعت في الاعتبار ظروف الفترة التي دارت فيها أحداثها. «قصر الشوق» مجرد حارة ضيقة عادية إلى أقصى درجة، لا تحمل جماليات بين القصرين أو بيت القاضي، أو مناطق أخرى في نفس الحيز، لكنها تحولت إلى واحدة من أشهر الأماكن في العالم بلا مبالغة، وخاصة العالم المهموم بالأدب. الأمر يبدو أكثر وضوحا في «زقاق المدق»، هذا الزقاق الذي لا يكاد مدخله، في حقيقة الأمر، يظهر للأعين، يتحول عند محفوظ إلى عالم فسيح، شاسع بشخوصه الذين يتجاوزون حدوده الضيقة، نظرة سريعة لا تستغرق ثواني كافية للإحاطة بكل ما فيه.

وقبل أن يأخذ الإحباط طريقه إلى نفس الزائر الذي كان يتوقع أن يرى كل التفاصيل التي قرأها في الرواية، يفاجأ بصوت ودود يشير صاحبه إلى أعلى قائلا: «هذه هي مشربية حميدة»، سيختفي صاحب الصوت في لحظات بعد أن يكون قد أدى مهمته، إنها مهمة بسيطة لكنها تسعى لإنقاذ المكان بأكمله من السقوط في أماكن قصية من الذاكرة. إنه الخوف من المقارنة بين الواقع والرواية التي ربما لن تكون في صالح المكان، لكن ما الذي جذب محفوظ إلى مكان كهذا؟ سؤال عبثي آخر لا يمكن وضعه في نسق الحديث عن آليات الإبداع وملابساته. لقد التقطت عين الأديب ما لم تلتقطه بقية الأعين، وهذه هي العبقرية، تماما مثلما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية عندما سقطت التفاحة على رأسه، كان يمكن أن يتعامل معها باعتبارها أمرا معتادا، لكنه لاحظ ما لم يلاحظه الآخرون عبر عشرات القرون. بالنسبة لمحفوظ لم يختلف الأمر كثيرا، فقد التقط جماليات خاصة قد لا تتوافر في الواقع، لكنها موجودة لدرجة تجعل هذا المكان من دون غيره محورا للرواية، ومع الوقت يقتنع أهل الزقاق أنفسهم بأن حميدة كانت تحيا هنا، وأن تفاصيل كثيرة من الرواية حدثت. قبل سنوات كان صاحب المقهى الوحيد في الزقاق، مقتنعا بأن محفوظ أخذ شهرة وتكريما كانا من حقه هو، فهو الذي أمده ولو بطريقة غير مباشرة بأفكاره عن الزقاق.

إنها المحاولات المتتابعة من أهالي الزقاق لصناعة تاريخهم الأسطوري، الذي ينقلهم حضاريا ليصبحوا: «على وش الدنيا»، إنها نفس رغبة حميدة في الرواية، لكنهم لم يملكوا جرأة الفرار، فبدأوا صناعة تاريخ ينقل الدنيا إليهم اعتمادا على الرواية. ما حدث في «زقاق المدق»، حدث مع حارات أخرى عديدة نجح محفوظ في أن ينقلها من تصنيف مسبق يضعها غالبا في قاع المدينة إلى الصفوف الأولى، لتتحول إلى مزارات ذات نكهة خاصة. لقد أصبحت الحارة معه حلما وكيانا أسطوريا يحمل ملامح جذابة بخيرها وشرها بمزاياها وعيوبها، وإذا كانت الحارة كوحدة معمارية قد اكتشفت منذ زمن طويل، فإن أديب نوبل اعاد اكتشافها كقيمة إبداعية، جذبت بعد ذلك مبدعين آخرين.

في الأساطير، تشتهر شخصية الملك ميداس، بأنه كان يحول كل ما يلمسه إلى ذهب. مع بعض التصرف يمكن الاستعانة بهذا النموذج عند الحديث عن نجيب محفوظ، فقد جعل الأماكن التي ارتبط بها تنتقل إلى مصاف المعالم، مقهى «على بابا» فى ميدان التحرير، «كازينو قصر النيل»، الذي ظل يقيم فيه ندوته الأسبوعية حتى وقع الاعتداء عليه عام 1994، وقبلهما «مقهى الفيشاوى»، الأماكن عديدة وما سبق مجرد أمثلة، ومجرد استحضار أسماء هذه الأماكن وغيرها يستدعي تاريخا من الأحداث، سواء كان بالنسبة لمن عاصروه فيها أو حتى اكتفوا بالتعرف عليها من خلال القراءة. لقد منح مثلا النيل الذي عشقه مذاقا آخر، واحتلت الاسكندرية عملين بارزين هما «ميرامار» و«السمان والخريف»، لكن في المقابل نجد أن هناك أماكن لم يرتبط بها نجيب محفوظ، فظلت هامشية في إبداعه من بينها الريف، وعن ذلك يقول لل ناقد رجاء النقاش: «لم أذهب إلى الريف إلا مرة واحدة عندما كنت طفلا، أخذني أقرباء والدي من أسرة آل عفيفي بالفيوم لقضاء الصيف هناك، وكانوا يملكون دوارا كبيرا، أمامه حديقة عنب وبجانبه أرض فضاء واسعة كنت ألعب فيها كرة القدم، ورغم استمتاعي إلا أنني طلبت إعادتي إلى القاهرة، ولم يمض على إقامتي في الفيوم أسبوعا واحدا، حاولوا إرضائي لأبقى لكنني كنت شديد التصميم فأعادوني، كانت هذه هي تجربتي الوحيدة في الريف، وخلال هذه التجربة لم أر الفلاحين، ولم أتعمق في تفاصيل حياتهم، وربما كان هذا هو السبب القوي الذي جعلني لا أتناول حياة الفلاح في كتاباتي». ورغم هذا، فقد كان الريف أسعد حظا من الصعيد، فمع أن أعماله الأولى كانت تركز على سياقات تاريخية تدور في الصعيد القديم، فإن محفوظ لم يذهب إلى الأقصر وأسوان ولم ير أيا من آثارهما، وعندما سئل أجاب انه الكسل، لكن أي كسل يمكن أن يتحمل هذه المسؤولية في حياة مبدع لا يمكن وصفه بالكسل، إنه التبرير القريب، لكن لا مجال هنا للخوض في محاولات تحليلية لن تجدي. فلكل إنسان أماكنه المفضلة، ربما لا تكون الأجمل في محيطها، لكنها الأقرب إلى القلب، والبحث عن مبررات لكونها الأقرب، أمر غير مجد.

فما هو المبرر الذي يمكن أن يفسر اهتمام الإنسان بمكان موحش وتحميله بمواصفات الجنة؟ سؤال عام يتخطى نجيب محفوظ، لكن يمكن تحميله ببعض الخصوصية: لماذا اقترب محفوظ من أماكن بعينها وابتعد عن أخرى رغم ثرائها أيضا؟ إن الإجابة في حالة وجودها ستدور في فلك الميول الشخصية والتركيبة النفسية وعين المبدع التي تمتلك القدرة على التقاط ما لا يراه الآخرون، الذين قد يكونون أكثر ارتباطا بالمكان من الناحية المادية.