ترويض العنف عبر الحب في فيلم فرنسي

مجتمع مأزوم يبحث عن صورة جديدة في فيلم «روبرتو زوكو» للمخرج سيدريك كان

TT

يشارك المخرج الفرنسي الشاب سيدريك كان في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الرابع والخمسين بفيلمه «روبرتو زوكو» وهو الخامس الذي يوقعه المخرج الذي يتميز بنظرته السينمائية ويتعاطى مع مواضيع واقعية يعالجها ببساطة الواقع وتعقيداته ايضا كما في فيلميه «كثير من السعادة» و«الضجر». يبدأ الفيلم بمشهد شابين يرقصان في وقت قاربت فيه العطلة الصيفية على الانتهاء في جنوب فرنسا في منطقة الكوت دازير، وحين تنتهي العطلة بعد ايام يكون على الفتاة ليا العودة الى منطقة السافوا حيث تعيش ويأتي حبيبها كورت للالتقاء بها من حين الى حين.

ولكن على الطرقات التي تربط بين المنطقتين تقع العديد من حوادث السرقة والسلب والنهب والاغتصاب وحتى القتل الذي يبدو من دون دافع. تفتش الشرطة عن الفاعل طوال سبع سنوات هي الفترة الممتدة بين عامي واحد وثمانين وثمانية وثمانين ليكتشفوا في النهاية ان منفذ كل هذه الاعمال شخص واحد فار من بلده ايطاليا.

قصة «روبرتو زوكو» الذي قتل والديه في ايطاليا وامضى خمس سنوات في مصح عقلي قبل ان يفر الى فرنسا، هزت ايطاليا وتناولتها الصحف مطولا قبل ان يتناولها الكاتب المسرحي الفرنسي الراحل برنار ماري كولتيس في نص مسرحي رسم شخصية تحولت الى رمز مناهض للمجتمع الغربي وقيمه الرأسمالية، لكن ذلك لم يمنع رجال الشرطة من التظاهر في ضاحية باريس حيث قدمت المسرحية ومنع الجمهور من دخول القاعة.

إلا ان ذكاء كولتيس وقدرته على صياغة نص مسرحي درامي يعتبر الاهم والاكثر حداثة في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين، دفعت بالمخرجين المسرحيين الى تناول المسرحية مئات المرات، كما دفعت بالمترجمين الى نقلها الى شتى اللغات في بلدان كثيرة حيث قدمت ايضا.

كل ذلك لا يجعل من مهمة المخرج سيدريك كان الذي اختار التطرق لهذا الموضوع مهمة سهلة، فالمشاهد الاوروبي مطلع على تفاصيل القصة بشكل عام، او هو على الاقل، سمع باسم «روبرتو زوكو»، الذي يظل شخصا محيرا في تاريخ الجريمة من وجهة النظر البوليسية او التحقيقية، انه الوحيد الذي كان يرتكب جرائم لا دافع لها، اللهم إلا ظلام الجنون الذي قد يكون مسه، من دون ان يكون ذلك أكيدا.

المخرج لم يستند الى المسرحية ولكن على كتاب توثيقي عرض مقابلات مع اهالي الضحايا او الذين تعرضوا لاعتداءات وايضا تحقيقات الشرطة الفرنسية التي حولها باسكال فرومون الى كتاب صدر عن دار «غاليمار» بعنوان «اني اقتلك. القصة الحقيقية لـ«روبرتو زوكو» القاتل بدون دافع».

يعيد الفيلم تشكيل وقائع القصة الفعلية التي كان مسرح عملياتها الجنوب الفرنسي حيث وقعت عشرات العمليات، ويبدأ عام 1988، عندما يقدم روبرتو على قتل احد رجال الشرطة السويسريين الامر الذي فتح عيون الشرطة الفرنسية عليه ودفعها للربط بين العمليات خاصة مع الماجور توماس، الذي سبق زملاءه الى هذا الاستنتاج لكنه كان يصل دائما متأخرا.

عبر سلسلة الاحداث التي تتعاقب طوال ساعتين واربع دقائق، يعرض المخرج لتلك الاعمال، من سرقة سيارات في الليل واغتصاب نساء ودخول بيوت وتهديد اناس واطلاق نار. ثم نتعرف شيئا فشيئا، على الشخصية التي يحمل الفيلم اسمها والتي تتمتع بقدرة خارقة على الفرار من رجال الشرطة تجعلها تذوب في الطبيعة وكأنها عنصر من عناصرها. ففي كل مرة كانت الشرطة تقترب منه وتكاد ان تضع يدها عليه يتبخر، ومشهد القتل الوحيد الذي صوره الفيلم هو مشهد حضره شهود.

انها حكاية مروية على لسان شهود رأوا ما حدث. وهذا ما أراده المخرج، لذلك جاء فيلمه متسلسلا حدثا بعد حدث، اقرب الى التسجيلي على خلفية الحب والمطاردات البوليسية، ولذلك بدا الفيلم كأنه عبارة عن ارشيف الشرطة التي احصت اعماله ولاحقته، كأن الشرطي الماجور توماس هو الذي يروي الفيلم، لأنه يستمع الى جميع الشهود. وقد لخص الفيلم جميع رجال الشرطة الذين تعاقبوا على هذه الاعمال بهذه الشخصية.

لكن الفيلم الذي يبحث عن دافع او دوافع واسباب للجرائم المتكررة التي يرتكبها زوكو سرعان ما يدخل في الرتابة وتروح العمليات تتشاهبه وتترادف وتكاد تعيد بعضها، فيظهر زوكو من خلالها، مرة وحشا ساديا ومرة انسانيا، كما حدث حين سرق سيارة طالبة في الطب وتركها تذهب دون ان يؤذيها. إلا ان التوتر الاقصى يظل مطلا من عينيه في جميع لحظات الفيلم الا واحدة: حين يشاهد الرسوم المتحركة على جهاز التلفزيون.

يرتبط زوكو بعلاقة عاطفية بليا الطالبة في الثانوية (تلعب الدور ايزيل لي بيسكو) التي يتعرف عليها في علبة ليلية كان يتردد عليها كثيرا. لها وحده يعترف بانه قتل والديه وانه فر من المصح بعد خمس سنوات، ويعترف بانه ايطالي بينما يقول للآخرين انه انجليزي مرة وهولندي مرة اخرى او انه ايطالي من ام فرنسية، رغم لكنته الايطالية البارزة بوضوح. يحبها ويخبرها انه يعرف نساء اخريات كثيرات، لكنه في الواقع وحيد ولم يرتبط فعليا باية امرأة رغم سنواته الست والعشرين. كانت ليا الوحيدة القادرة على امتصاص عنفه.

ومن ناحيتها، كانت ليا تعيش قصة حبها الاولى، ولم تكن على وعي فعلي بالخطورة الكامنة في هذه العلاقة، لذلك حين يبوح لها بسره عن والديه تبدو غير مصدقة له او ربما واقعة تحت تأثيره. وكانت تعتقد في البداية انه يملك فعلا عددا من السيارات. يقول لها مرة: «انظري، انا غني، املك الكثير من المال اما انت فلا تملكين شيئا». هذا التحول يجعلها تكتشف انه غريب وانه يكذب عليها ويتعامل معها بقسوة فتقرر الانفصال عنه. والغريب انه احبها فعلا رغم العنف الذي يرشح منه كما التنفس، فلم يمسها بشر كما فعل مع اشخاص آخرين.

والواقع ان ليا كانت الشخص الوحيد الذي اعاده للحياة وربطه بواقع ما، فنراه يتصل بها تليفونيا في عيد ميلادها رغم انفصالها عنه، لكن المخرج يجعل للحظة الانفصال انعكاسات تراجيدية تدفع بزوكو الى الاسراف في اعمال العنف، كأنما ليتخلص من عذاب مستديم او صراخ عنيف يملأ رأسه، ويتخلص منه باخراجه وفرضه على الاخر. عنفه المتكرر وجرائمه لا تهدف الى شيء الا الى الاحساس بالوجود وتكثيفه في الحياة، وبأنه موجود وحر.

يقتل زوكو رجلي شرطة حاولا ايقافه بعد ان قتل مدينا على باب بار ليلي اعقب مشاجرة ويعود الى فينيسيا، بلده. وحين تكتشف ليا حقيقته تعترف للشرطة وتخضع للاستجواب في مشهد طويل.

وتنتهي الشرطة الايطالية بايقافه في ايطاليا في مشهد يبقى من اجمل مشاهد الفيلم: يعود كورت الى ايطاليا، ويبدأ بالخروج مع فتاة تراقب الشرطة بيتها، يمر من امام الشرطيين الحارسين ويحييهما، ثم يسأله احدهما: «روبرتو زوكو؟» فيجيب سهوا: «نعم» ويقبضان عليه.

أزمة روبركو زوكو ناتجة عن كونه قادرا على فعل كل شيء او على الحصول على اشياء لا يحبها لانها تضاعف من يأسه وهو في الاساس باحث عن الحرية، يريد الانعتاق من سجونه جميعا: سجن مستشفى الامراض العقلية والسجن الفعلي وسجن الذات وسجن المجتمع لكن الطريق الى هذه الحرية المطلقة لا يتحقق الا عبر فعل القتل، القتل المجاني، من دون اي انفعالات او ندم.

وهو في بحثه عن الحرية يزيل اي عائق بشري، كما يزيل الاشياء، او كما يطوعها لارادته. قتل والديه، رمز السلطة التي يمارسها الاهل على الابناء علما ان والده كان شرطيا، اي عضوا في مؤسسة اجتماعية مهمتها فرض تطبيق القوانين.

يتنقل بين ايطاليا وفرنسا وسويسرا رافضا النوم، يريد ان يستمر صاحيا ومتنقلا كل الوقت، انه النقيض الكامل لجهاز الشرطة المكبل بالبيروقراطية والشكليات.

في موازاة تحقيقات الشرطة التي تتواصل بطيئة جدا، يتابع روبرتو نار فعله في الطريق التي يمر بها، وهو في حركته السريعة وكلامه المتعجل واسلوبه في القيادة وسرعة تفكيره وبديهته يبدو اقرب الى جن او قرد. طريقته في الوجود تتعارض كليا مع طريقة عمل جهاز الشرطة، لهذا يبدو متفوقا على هذا الجهاز الذي يمل السلطة. اما الشرطي الذي يؤدي دوره باتريك دلسولا فبدا شخصا موجعا من الداخل، لكن على كرامة وبعيدا عن صورة الشرطي الكاريكاتورية.

ويلمح المخرج عبر اشارات كثيرة الى التحرك البطيء جدا لرجال الشرطة الفرنسية الذين يظلون عاجزين تماما عن الامساك به، اما لعدم الامكانيات المتوافرة لجهاز الشرطة الفرنسي (الحال ما زال كذلك اليوم) فالضابط المسؤول لا يمكن له السفر الى ايطاليا بهدف متابعة التحقيق لان رئيسه يمنعه لكون العملية مكلفة. هناك ايضا عدم تعاون الشرطة الايطالية مع الشرطة الفرنسية الذي يبرز واضحا في الفيلم.

وتأتي النهاية في الفيلم، في مشهد ـ مفتاح يسبق انتحار زوكو، عبر خطاب سياسي متناقض وغير متناسب، يلقيه زوكو من على سطح السجن، ويدحض فيه المجتمع الرأسمالي ويقول بانه سياسي وانه شيوعي يريد توزيع الثروات على الناس في ايطاليا المافيات، لذلك سجن.

هذا الموقف الاخير (قل كلمتك وامض) جعل من زوكو لدى بعض الناس والطلاب الثوريين بطلا شعبيا، وهذا ما نلمحه في حزن حارس السجن عند انتحاره. وكأنه يتحول الى بطل شعبي في الذاكرة الشعبية وان لدى عدد محصور من الناس ورمز للنضال ضد قوانين المجتمع الرأسمالي.

وروبرتو زوكو الذي يؤدي دوره ببراعة الممثل غير المحترف ستيفانو كاسيتي، يظهر ان اي كائن بشري تستهويه المغامرة واختبار الذات في امور خارجة عن الاطار المؤسساتي في حياة المدينة حين يكون شابا لكنه سرعان ما يتحول الى نوع من حيوان اليف.

وهو في طريقة تصويره يظل متراوحا بين الشخص الذي وقع ضحية مجتمع وبين الشخص الذي يرتكب مجازر دموية بشعة، والوجهان من شأنهما، في رأي المخرج، تحويل الشخصية الى بطل، لذلك يجعلها حتى نهاية الفيلم هائمة بين الوجهين وملتبسة فيخرج المشاهد هو ايضا ملتبسا امامها، تماما كما الشرطة التي استمعت الى شهادات الشهود التي اظهرت شخصية كورت بابعادها المختلفة لتبدو عبثية او انسانية، دموية او سادية، الشيء ونقيضه. لكن وبما ان حيادية الدراما تظل امرا مشكوكا فيه فان الشخصية تظل محببة رغم محاولة المخرج الحفاظ على الموضوعية.

من هنا تكمن خطورة الفيلم في هذا السحر الذي يمارسه الشخص الخارج على السلطات، على الاشخاص الآخرين غير القادرين على الاقدام على فعل مثيل، وكذلك على المشاهد الذي يتماهى جانبه النازع الى التمرد مع تلك الحرية الزائدة التي لا توصل إلا الى الموت.

=