مثقفون يهمشون دور المثقف العربي

لغة جنائزية وتقزيم للأدوار في ندوة لبنانية عن واقع الثقافة العربية المعاصرة

TT

أسوأ اشكال النعي الثقافي هو الذي يأتي من المثقفين انفسهم، ولا يترك منفداً يتسرب منه بصيص ضوء. فحين يكون الكتّاب هم الذين يتحدثون عن موت الابداع العربي، وعن انتظارهم لمبادرات سياسية كي يصبحوا فاعلين او شبه فاعلين، فان ثمة ما يدعو للقلق.

وقد كانت الندوة التي اقيمت على هامش «المعرض السادس والعشرين للكتاب» في مدينة طرابلس اللبنانية تحت عنوان «الثقافة العربية اليوم» وجمعت الكاتبين عزيز العظمة وخالد زيادة، من هذا النوع السوداوي الذي ينذر بانهزامية نكراء ممن يفترض فيهم ان يكونوا أصحاب المبادرات الخصبة والاقتراحات المثمرة.

عزيز العظمة وبعد طول حديث عن الثقافة، وهل هي كل شيء انتجه البشر، ام هي محصورة في النتاجات الابداعية الادبية والفكرية، انتهى الى ترجيح التعريف الثاني ـ كي لا يدخل في هلاميات ضبابية ـ لأسباب تقنية بحتة. ثم كان التحليل الذي قاده الى الكلام عن السياسة والثقافة والمجتمع في آن واحد مبيناً انها أركان متداخلة، لكن البحث يقتضي فكفكة المعطيات وتشريحها، لفهم ماهية الحركة، هذه الحركة التي يراها آتية بداياتها من فوق. فالاصلاح ينطلق، كي يكون ناجعاً، من رأس السلطة، التي تقوم بالمبادرات الاولى. اذ ان التغيير هو صنيع عملية تاريخية تتأتى من تهيئة الاجواء السياسية التي تنتج بعد ذلك احزاباً وتنظيمات وهيئات المجتمع المدني التي عرفتها المجتمعات الغربية.

وتحدّث العظمة عن خيارين لا ثالث لهما فإما ترك الامور على غاربها وافساح المجال للجموع لاقامة تكتلاتها العفوية الصغيرة القائمة على العصبية والنزعات الدينية، وإما ان يتخذ الحاكم قراره برسم اطار سياسي مدروس يسمح للجماهير بالتحرك داخله على قاعدة واضحة ومحسوبة. وهكذا يكون قد وفر على شعبه محنة الدخول في حالات غوغائية يكون اللاوعي فيها مادة للتهييج والتعبوية، وعرضة للاثارة مع كل هبة ريح.

اما عن الدور الذي يسنده العظمة للمثقفين، فهو دور صغير يتلخص في ان يكونوا مجرد همزة وصل بين الطبقة السياسية والشعب. اي ان العظمة يختزل بقسوة دور المثقف الذي يفترض فيه ان يكون ريادياً ومتمرداً، لا بل وقيادياً، فكرياً وتنظيرياً، على اقل تقدير. فهو لا يسند اليه سوى دور المترجم الامين لاماني الحكام وخططهم. افلا يكفي انه لخصّ دور الشعب بالمتلقي السلبي ليعمد بعد ذلك الى تقزيم دور المثقفين ومسخ واجباتهم اتجاه مجتمعاتهم؟

مداخلة الكاتب خالد زيادة في الندوة لم تشأ الخوض في دور السياسة، لكنها لم تكن اقل وطأة في روحها السلبية التشاؤمية، اذ انه اكتفى بقراءة وضع الثقافة العربية من خلال انطباعاته عن معارض الكتب التي اقيمت العام الحالي في كل من بيروت والقاهرة ودمشق ليخلص الى نتيجة مفادها اننا اصبحنا عالة بشكل كامل على الغرب. وباستثناء بعض الروايات والقصص فنتاجنا، لا سيما في مجال الابحاث الاكاديمية التي تعنى بالعلوم الانسانية، لا يقدم جديداً يذكر. وهنا قد يكون خالد زيادة على صواب اذ ان الدراسات الجادة والخلاقة تتضاءل لاسباب جوهرية عديدة تتعلق بالكتّاب انفسهم وبظروف موضوعية اخرى ليس هنا مجال بحثها، اما ان ينفي خالد زياده امكانية العثور على كتب تراثية بطباعة وتحقيق جيدين، ويحدد بالاسم كتب الجاحظ وابي حيان التوحيدي وابن خلدون وامثالهم، فهو امر لا يصمد امام حقائق النشر العربي. فمؤلفات الجاحظ حققت افضل تحقيق على يد شيخ المحققين العرب عبد السلام هارون وقد طبعت وقرصنتها اكثر من دار نشر لبنانية، وهي متوفرة في الاسواق بطبعات ممتازة.

اما ابو حيان التوحيدي فلقد قام بتحقيق مؤلفاته جميعها اشخاص تتوفر فيهم الدقة ونذكر منهم ابراهيم الكيلاني، ووداد القاضي تلميذة المحقق احسان عباس، فيما طبعت مقدمة ابن خلدون طبعة لعلها اكثر من ممتازة ونشرت في اربع مجلدات ضخام قام بتحقيقها وبوضع دراسة مرموقة عنها وبفهرستها عالم الاجتماع وعالم اللغة د. علي وافي في مصر. هذه الكتب ربما كانت فعلاً غير متوفرة في كل المكتبات لكن، بالتأكيد، من يطلبها يجدها. ويحق للكاتب خالد زيادة ان يعترض على غياب مؤسسات تعنى بالتراث بشكل منتظم، انما لا يصح ان نلقي التهم جزافاً على من حولنا، وان نرى كل ما يحيط بنا مظلماً ورديئاً ومهشماً، ونتحدث كأننا امة لم يبق لها سوى البكاء على الاطلال.

ولسوء حظنا ان مثقفينا ينعون الثقافة، ويلقون باللوم على المجتمع والسلطة وعلى زملائهم من المثقفين والكتّاب لكنهم نادراً ما يشعرون بجدية دورهم، واهمية ان يسعوا لا لتوصيف مأساوية الوضع، وانما لطرح اسئلة جريئة وفي العمق. فقد لا يكون التغيير فعل قرار سياسي، كما يقول عزيز العظمة، الذي يبدو انه يتحدث عن تجربة سياسية عربية راهنة في وجه تسميتها اكثر مما يبحث عن منافذ للخلاص. وبالتأكيد فان الابواب لم تغلق جميعها في وجه هذه الامة المنتظرة على عتبة الامل، كما اراد ان يوحي خالد زيادة في مداخلته المتجهمة، لكن المعضلة هي في تقاعس النخبة عن التفكر والتدبر والاكتفاء بالاسهل.

أليس النعي هو اسهل الطرق الى النسيان؟