متحف للأرمن الفلسطينيين في بيت لحم

إنهم «أولاد البلد» .. يعيشون بيننا منذ القرن الخامس الميلادي

TT

لا يمكن تمييز الشاب من عائلة نصار الأرمنية الفلسطينية الذي يجلس في مدخل المكان الأثرى الذي سيكون أول متحف ارمني في مدينة بيت لحم، عن أي من نظرائه الفلسطينيين، الذين يتحلقون حوله، في ساحة كنيسة المهد. ومن المتوقع أن يسلط المتحف الذي يجري الإعداد لافتتاحه الضوء على قسم من الأرمن الفلسطينيين الذين يطلق عليهم وصف «أولاد البلد» المندمجين إلى حد التماهي التام مع باقي الفلسطينيين، والذين وصلوا الى هذا المكان منذ قرون عديدة.

المبنى الذي سيضم المتحف الجديد، يقع في القسم المخصص للأرمن في كنسية المهد، واستخدم طوال قرون في أمور متعددة آخرها كإسطبل للخيول، وكان خلال العقود الأخيرة مهجورا، ومكن دعم غربي سخي، من تنظيف وترميم المبنى الضخم.

ويعتقد محمد أبو مطحنة، وهو خبير سياحي، أن المبنى هو القلعة الصليبية التي بنيت في بيت لحم، ويستدل على ذلك بعدة أمور من بينها بروزها اللافت وتصدرها لما يمكن اعتباره مجمع كنيسة المهد، التي حظيت باهتمام العهود المختلفة التي تتالت على فلسطين.

وتعتبر كنيسة المهد الآن، أقدم كنيسة ما زالت قائمة في العالم، بالإضافة إلى أهميتها الدينية، بصفتها المكان المجمع عليه على انه شهد ولادة المسيح عليه السلام

ويحوي المكان المعتق الذي سيتحول الى متحف، وكانت «الشرق الأوسط»أول وسيلة إعلامية يسمح لها بدخوله، معصرة قديمة لإنتاج زيت الزيتون يطلق عليها محليا «البد». وهذا البد مكون من عدة أدوات حجرية لطحن الزيتون، بطريقة فنية وعملية، بالإضافة إلى قنوات وبرك متعددة الأحجام، أظهرتها عمليات الترميم في المكان. وفي الموقع أنفاق أرضية توصل إلى مواقع أخرى في ساحة المهد وآبار، وكوات مرتفعة متعددة الأحجام، يعتقد أنها استخدمت لأسباب أمنية وعسكرية، ووضعت فخاريات عثر عليها في حفريات أثرية في القدس وبيت لحم، في إحدى الغرف تمهيدا لتصنيفها وعرضها.

ونقشت رسوم زخرفية حديثة على أحد الجدران، تمثل الفن الأرمني التقليدي، ويعتبر إنهاء المرحلة الأولى من المتحف، بترميم وتنظيف المبنى الذي استمر عامين، أمرا هاما. ورغم عدم افتتاح المتحف رسميا، إلا أن المبنى يثير فضول مجموعات من السائحين والحجاج، الذين يصرون على الدخول إليه.

وتعود سيطرة الأرمن على هذا المبنى إلى عام 1810م، عندما سكنوا في الناحية الشمالية لكنيسة المهد، وأصبح لهم كنيسة ملحقة، ويحق لهم إقامة صلوات في ساعات معينة داخل مغارة المهد يوميا، وفقا لما يسمى «الاستاتكو» وهو كناية عن بروتوكول ينظم حقوق وواجبات الطوائف المسيحية في فلسطين. وترتبت حقوق كل طائفة مسيحية وفقا لهذا «الاستاتكو»، نتيجة الصراع الطويل والمعقد للقوى العالمية الكبرى في لحظات تاريخية معينة من تاريخ فلسطين والعالم.

وسيخصص المتحف لتاريخ الأرمن في فلسطين، والذين يتركزون في مدينتي بيت لحم والقدس، حيث يوجد أحد اعرق الأحياء في بلدتها القديمة وهو حي الأرمن الذي خرج منه بعض من ألمع الأكاديميين والسياسيين الفلسطينيين.

ويفخر الأرمن في فلسطين بأن جذورهم تعود إلى القرن الخامس الميلادي، حيث شكلت فلسطين امتدادا لامبراطورية «اوراتو» التي كانت واسعة الأطراف. أما الهجرة الأرمنية الكبيرة إلى فلسطين فحدثت عام 1915 على اثر المذبحة التي راح ضحيتها مليون ونصف المليون ارمني خلال الحرب العالمية الأولى.

وحول هوية الأرمن الفلسطينيين، يقول أحد الأكاديميين الأرمن «نحن إثنيا أرمنيون وقوميا فلسطينيون». ويؤكد هذا الرأي انخراط الشباب الأرمن في المؤسسات والفصائل الوطنية الفلسطينية، وفي النضال ضد الاحتلال.

وقبل عام 1976، كان تعداد الأرمن في القدس 17 ألف نسمة، أصبحوا الآن ألفي نسمة فقط، بسبب ما يطلق عليه نزيف الهجرة الذي يهدد المجتمع الفلسطيني.

وأسباب الهجرة عديدة أهمها، كما يعتقد البروفيسور مناويل حساسيان، سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة «الاحتلال وممارساته والصراعات الدائمة في فلسطين، والوضع الاقتصادي السييء»، ويحتفظ المهاجرون بعلاقات ثنائية مع وطنهم الام ومع أهلهم ووطنهم الفلسطيني. ويقول حساسيان «لم تقتصر جهود الأرمن في البلاد العربية على تقديم خبرات الفنيين في مجالات الحرف والصناعات الدقيقة، بل مارسوا حقهم الوطني والشرعي كمواطنين عرب، وانخرطوا في المحافل الشعبية والرسمية بأطرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وذلك أمر طبيعي، كما يرى حساسيان «لأن هناك أوجه تشابه بين العربي الأرمني»، فكلاهما ذاق التشرد والمذابح، وكلاهما صاحب حق شرعي في وطنه، ولم يجد الأرمني الفلسطيني تعارضا بين انخراطه في النضال الوطني الفلسطيني والنضال من اجل حل عادل للمسألة الأرمنية، فكان مشاركا في الحركة الوطنية الفلسطينية وحركة المقاومة الأرمنية بأحزابها المختلفة.

وفي مدينة بيت لحم يعيش الآن 300 أرمني يعتبرون أنفسهم فلسطينيين «أقحاحا» و«عربا» اصلاء، وغالبيتهم أبناء لعائلات جاءت إلى فلسطين قبل الهجرة الأرمنية الحديثة عام 1915، ويحملون أسماء عربية ومن الصعب تمييزهم عن بقية السكان، وهم الذين يطلق عليهم داخل الطائفة الأرمنية اسم «أولاد البلد».

ويقول عيسى نصار، أحد ابرز وجوه أرمن «أولاد البلد» والذي يتحدث باللهجة الفلسطينية المغرقة في محليتها، بأن هذه المجموعة من الأرمن، في أغلبيتهم، لا يتقنون اللغة الأرمنية، مستثنيا من ذلك كبار السن والتلاميذ الذين يتعلمون في مدارس القدس. ويقول نصار إن عادات وتقاليد الأرمن في بيت لحم، هي نفسها عادات وتقاليد بقية السكان، ولا يشعر الأرمني بأي فرق بينه وبين أي مواطن آخر. وكثيرون من الأرمن تزوجوا من عربيات، وكثيرات من الأرمنيات تزوجن من عرب مثل بنات السيدة أم أليكس التي لجأت إلى بيت لحم بعد مذابح الحرب العالمية الأولى، وهي طفلة وعاشت في المغر مع الناجين من أهلها.

وتعيش أم أليكس الآن وحيدة في منزلها في المدينة بعد أن هاجر أبناؤها إلى الخارج، وتوفي زوجها، وجربت العودة إلى أرمينيا، ولكن بعد أن ذهبت اشتاقت لبيت لحم فعادت، وتعيش وحيدة تدندن بأغان أرمنية وعربية، وتعلم جاراتها الأكل الأرمني والفلسطيني.