ماذا بعد أن أصبحت القطارات رحلات الموت؟

تغنى المصريون بها في حياتهم ومجدوها في إبداعاتهم

TT

«يا وابور قوللي رايح على فين

عمال تجري قبلي وبحري

تنزل وادي تطلع كوبري

حود مرة وبعدين دوغري

ما تقول يا وابور رايح على فين»

حتى وقت قريب كان المصريون حين يرددون هذه الأغنية وراء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب تنتابهم حالة من النشوة بقطاراتهم التي كانوا يضبطون ساعاتهم على مواعيد انطلاقها ووصولها. وكان لمحطة السكة الحديد نوع من المهابة، تتلمسها خطواتهم حين يقدمون إليها للسفر أو توديع واستقبال أحد من الأهل أو الأصدقاء.

يتحسر المصريون الآن، على ذلك الزمن، ويتساءلون: لماذا تحولت قطاراتهم إلى نزف وصراخ وعويل؟ فهم يدركون أنهم أصحاب ثاني أقدم سكة حديد في العالم، بدأ العمل بها في عام 1851 بعد الخط الذي يربط مدينتي مانشستر وليفربول بانجلترا عام 1830، ويدركون أكثر أن القطار، منذ ذلك التاريخ دخل في نسيج حياتهم، وأصبح له دور تاريخي وحضاري. فهو ليس فقط وسيلة المواصلات الأرخص والأكثر أمناً التي تربط جسد الوطن المتشعب الأطراف، وإنما أصبح له ما يشبه الكينونة الخاصة في ذاكرتهم وثقافتهم الشعبية، وتعددت دلالاته ورموزه ، وأصبحت الأمثال التي تساق باسمه وفي إهابه تشكل نوعا من التلخيص للكثير من أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية، بداية من العانس التي «فاتها القطار» والمنضبط الذي لا يحيد عن الحق ولا يخرج عنه في أقواله وأفعاله، انه تماما مثل «القطار لا يخرج عن القضبان»، واليائس الذي لا يزال يداعبه بصيص أمل في الحياة، وكأنه ينتظر أو فاته «القطار الأخير». وفي تراثهم الغنائي والفني مجد المصريون القطار، وغدا رمزا عاطفيا بامتياز للتعبير عن اللهفة للمحبوب، وغيرها من مشاعر الحب واللقاء والفراق، كما دخل في قفشتاهم ونوادرهم، وأدبهم الروائي والمسرحي والسينمائي لما يجسده من حياة حافلة بمفارقات المتن والهامش في المجتمع.

يذكر التاريخ أن علاقة المصريين بالسكة الحديد، كثيرا ما خرجت عن المألوف، وتحولت إلى سلاح للتمرد والغضب ومقاومة العدوان والظلم. وهو ما حدث إبان ثورة 1919، حينما قام المصريون بتقطيع خطوط السكك الحديد ليعزلوا المحتل الانجليزي ويمنعوه من مطاردتهم والوصول إليهم، وأعلنوا بعض المدن والمحافظات جمهوريات مستقلة عن سلطة الاحتلال مثل «جمهورية زفتى» بدلتا مصر، والمنيا بالصعيد.

لكن مع تجدد حوادث القطارات الكارثية التي وقعت في السنوات الأخيرة تحولت هذه العلاقة الحميمة إلى ما يشبه المرثية الدامية، والمفارقة التي تذهل المصريين أن معظم القطارات التي تعرضت لهذه الحوادث هي قطارات الفقراء، سواء في الضواحي أو على الخطوط الطويلة مثل خط الصعيد الذي شهد في عام 2002 اعنف كارثة في تاريخ السكة الحديد في مصر تفحمت فيها جثث نحو 370 مواطنا، فضلا عن إصابة المئات بعد أن اشتعلت إحدى عربات القطار ولم يستطع السائق أن يوقفه فامتدت النيران إلى معظم العربات، بعدها توالت حوادث القطارات. ففي 21 أغسطس الماضي كانت مدينة قليوب على تخوم القاهرة مسرحا لحادث اصطدام قطارين مروع، أسفر عن 58 قتيلا وإصابة نحو 144 آخرين. ولم يكد يمر أسبوعان حتى شهدت مدينة شبين القناطر القريبة منها حادثا مماثلا حيث اصطدم قطاران أحدهما قطار بضائع، والآخر للركاب وأسفر الحادث عن 6 قتلى وأكثر من 30 مصابا. وبرغم سياسات التبرير والاعتذار التي يكررها دائما المسؤولون مع كل حادث، إلا أن ثقافة الإهمال واللامبالاة لا تزال هي السائدة.

في ظلال هذا المشهد ترى ماذا يقول الأدباء والشعراء عن محطة السكة الحديد التي طالما استلهموا من أجوائها إبداعاتهم، وهل لا يزال القطار في رؤاهم وأفكارهم، رمز الانعتاق والانطلاق، أم انه أصبح الطريق الأسرع إلى الجحيم؟

الرحيل إلى المجهول والمعلوم في آن واحد

في فضاء الروائي إدوارد الخراط صاحب رواية «السكة الحديد» تتعدد دلالات القطار بشكل أثير، أوضحها ـ حسبما يقول ـ أنه رمز جلي للانتقال من محطة إلى محطة، من دار إلى دار، من دنيا إلى أخرى. ثم إن الرحلة والقطار يشكلان معادلا للحياة من محطة الميلاد إلى الموت. لذلك نجد الأدب الإنساني قد عني بالقطار، لأن من الأشياء الطريفة في هذا المقام أن الطائرة لم تحل محل القطار، فهي قوقعة تنطلق دون أن تعبر المشاهد المتنوعة التي يمر عليها القطار كما تمر عليها الحياة.

وعن القطار في ذاكرة المصريين يرى الخراط أن له نوعا من السحر والجاذبية. فهو يحمل دلالة الانتقال وربما السفر نحو مصير معروف ومجهول في آن معاً. كل تلك الدلالات تجعل من القطار رمزاً ساحراً. ولذلك هناك الكثير من الكتاب في العالم قد أفادوا منه واعتبروه معادلاً لرحلة الحياة نفسها، مثل تولستوي على سبيل المثال.

ويتعجب الخراط من تكرار حوادث القطارات في السنوات الأخيرة فهو «أمر بشع وكئيب ويؤكد أن القائمين على أمور حياتنا فقدوا الإحساس بقيمة الإنسان والحياة معا في هذا الوطن».

ومن خلال طوافه في أعمال الكتاب والشعراء يرى الناقد د. مجدي توفيق أن الروائي إبراهيم عبد المجيد أكثر الكتاب تأثرا بعالم القطارات، فله رحلات مع والده حول إشارات القطارات في الإسكندرية، جعلته يكتشف عالماً خاصاً في مناطق الحرب العالمية الثانية، في مقابر جنود الحلفاء والمحور. وقد تجلى هذا العالم في العديد من أعماله بشكل فني شديد العذوبة. وأعتقد أن القطار أصبح ملجأ له في مستوى أكبر، وهذا الهم جعل إبراهيم عبد المجيد، مشغولاً إلى حد كبير بالهجرة والانتقال من مكان إلى مكان، يكتب في الإسكندرية راصداً سكانها الذين جاءوا من مناطق مختلفة أهمها صعيد مصر، ويكتب عن الحجاز مصوراً فئات هاجرت إليه من أنحاء العالم. وفي تقديري أن عنايته بفكرة الانتقال من مجتمع إلى مجتمع هي نتيجة لانشغاله برمز «القطار».

كذلك عند أمين ريان في «حكايات من النجيلي»، يلعب القطارـ حسبما يرى مجدي ـ دوراً دقيقاً لأنه يفصل بين مناطق العمال والفقراء من جهة ومناطق اللهو والسمر من جهة أخرى والتي كان الأغنياء يقضون لياليهم فيها في حي «روض الفرج» بشبرا. وداخل الكتاب تعد حركة الانتقال عبر شريط القطار انتقالا من بيئة إلى بيئة ومن عالم إلى آخر. ويشير توفيق إلى أن السينما المصرية والعالمية، كانت من أكثر الفنون اهتماما بعالم القطار. فمنذ كتبت أغاثا كريستي «جريمة في قطار الشرق السريع» ظهرت عشرات الأفلام التي تدور مغامراتها في قطار، وتكررت في الأفلام المصرية مشاهد الصراع فوق أسطح القطار المسرعة. واستطاع يوسف شاهين أن يقيم من عالم القطار، فيلم «باب الحديد» الذي هو قطعة فنية رفيعة المستوى من غير شك. وأعتقد أن القطار أقدم رموز الانتقال من عصر ما قبل الحداثة إلى الحداثة، لأنه يطوي الزمن وينطلق، ويرسل دخاناً يناسب عالم الصناعة الجديد. وربما كان هذا البعد من العوامل المهمة في لفت أنظار الأدباء والفنانين إلى عالم القطار. ولا ننسى في هذا الصدد مسرحية «مسافر ليل» للشاعر صلاح عبد الصبور والتي تدور داخل قطار، وأيضا مسرحية «السبنسة» لسعد الدين وهبة التي شبهت المجتمع بقنبلة موقوتة يحملها قطار في عربته الأخيرة ـ عربة الفقراء ـ لكن لا أحد يعرف كيف يوقفه. وغيرها من الأعمال التي تشير إلى القطار كرمز سهل وموح لعالم الحداثة الجديد.

الفساد قتل الأحلام المسافرة

الروائي محمد البساطي لا يغيب عن ذهنه عالم القطار الذي وسم أحد أعماله باسمه. يتذكر البساطي بطل روايته «المقهى الزجاجي» مرسال الرسائل والخطابات أيام الدولة العثمانية الذي كان له مكان خاص بالقطار، يتيح له رؤية أشياء معينة واستكشاف الأمور من زاوية بعينها. وكان يشعر بالضيق وغموض الأشياء من حوله حين يصعد القطار ويجد هذا المكان مشغولا. يتذكر البساطي هذا العالم ويقول: القطارات وسيلة مواصلات الغلابة، يركبها الفقير والميسور الذي خصصت له الدرجة الأولى، ولكن ليس الثري، فالثرى ينتقل بسيارته. وعموما القطار مريح أكثر من الأتوبيس، وهو رمز للانطلاق.

ولا ينسى البساطي ذلك المشهد: «زمان أيام الملك كان هناك عربات المواشي والتي كان لها نوافذ صغيرة لكنها كانت تنقل الناس المطلوبين للجهادية «الجيش»، وكنت وأنا صغير أشاهد هذا بعين الشباب في عربات المواشي التي لا تنفتح إلا في البلد المقصود. أنا تعاملت مع هذا الموضوع في فيلم «خريف آدم». فكان نقل القطن والبضائع رمزا لأشياء كثيرة، وكذلك نقل نساء الشهداء المتكومات في عربة الشهداء، كل ذلك شكل مجالا خصبا للكتابة. كنت أستخدم القطار وأتسلق فوق سطحه أحيانا، عندما لا يكون عندي نقود. وقد أثرت هذه العوالم على دلالات القطار داخل أعماقي فأصبحت مرتبطة بالعمل ككل وبالناس وبالاتجاهات المختلفة، داخل القطار تدور أحداث ونقاش وصراعات.

ويأسف البساطي على حال القطارات الآن: القطار زمان كان منضبطا، الآن تشع منه روائح السرقة والنهب والصفقات المشبوهة وقطع الغيار المتهرئة، ونسمع كلاما فارغا من المسؤولين. نحن نعاني من منظومة فساد كاملة. من يتصور ان النقود التي تنفق في عام واحد على مهرجان المسرح التجريبي، لو تم توفيرها لجددت كل قصور الثقافة على مستوى الجمهورية؟ ألم يكن ذلك ليجنبنا مأساة المسارح التي تحترق، والقطارات التي تداهمنا كوارثها بصورة مفجعة. ما يحزنني أن القطارات التي تلقى الرعاية والاهتمام عندنا هي القطارات الفاخرة التي يركبها الأغنياء، أما قطارات «الغلابة» فتمشي بدون قطع غيار، وهذه جريمة كبيرة ترتكب في حق الشعب».

إبراهيم عبد المجيد عاشق السكة الحديد

الروائي إبراهيم عبد المجيد يشكل عالم القطارات والسكة الحديد البؤرة الأساس في نسيج الكتابة لديه، ولذلك يؤكد أن دلالات القطار في أعماله كثيرة ومتنوعة. وهي تعبر عن عشق خاص لهذا العالم، ليس فقط بحكم النشأة في كنف أب يعمل بالسكة الحديد، وإنما أيضا بسبب ما يحمله هذا العالم من مقومات إنسانية تجدد نفسها يوميا في مشاهد لا تنقطع، «فمثلا في روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية» القطار موضوع رئيسي، وهو وسيلة لنقل المحاربين الأجانب، ووسيلة هروب من المواقع، ووسيلة لمراقبة ومعايشة مرور الزمن وتخطيه في الوقت نفسه.

وفي روايتي «المسافات» لا يعود الزمن إلى الوراء، لكن ساعي البريد يأتي بأشياء وأناس أعزاء من الماضي القريب والبعيد. كذلك في «الصياد واليمام» هناك لجوء للقطار كملاذ للسكينة أو السكنى بعيداً عن صخب الحياة».

وبحماسة يكمل عبد المجيد: القطار رمز للتعبير عن تحولات الزمن من البخار إلى الكهرباء، والعالم واقف من حوله لا يتحرك. هكذا يبدو في روايتي «طيور العنبر» مزيج من الخيال والسحر. فحارس القطار يعيش طوال عمره في هذا العمل ويعيش أيضاً في الخيال والأحلام التي تجعله يتصور الحياة دائما بمثابة رحلة في قطار، لا تنتهي، وأحيانا تختلط فيها البدايات بالنهايات. فالقطار قيمة رئيسية عندي، ورافد أساسي من روافد طفولتي. فقد كان والدي يصحبني معه في عمله في السكة الحديد، وعشت بين الموظفين والعمال وكنت قريباً جداً من هذا العالم. ولا يزال القطار أفضل وسيلة انتقال بالنسبة لي حتى عندما أسافر إلى أوروبا. وسيظل القطار في حياة المصريين – برغم ما يتعرض له من إهمال وإفساد ـ رمزا للسفر والانتظار والمسافات البعيدة والرحيل والوحشة والحركة التي تنتهي إلى لقاء أو افتراق.

إنهم يشوهون أحد الرموز الجميلة في أدبنا وحياتنا... هكذا بادرني الشاعر محمد عفيفي مطر، ثم أردف: إنها مهزلة بكل المقاييس. في طفولتي كان القطار يمثل لي نوعا من اليوتوبيا الخاصة. كان وقعه في وجداني مثل الخرافة الشعبية، وحينما اشتد عودي الشعري صارت بيننا ألفة من نوع غريب. كنت أجلس في محطة القطار وأحس بنوع من التوافق والانسجام بين إيقاعه المنتظم على القضبان، وإيقاع القصيدة عروضيا، ولم يفارقني هذا الإحساس حتى الآن. ثم راح يدندن مطلع إحدى قصائده الشهيرة: «القطارات لم تتقطع.. غبش الفجر لوزة قطن مبددة نفضتها الرياح على قبة النخل والشجر النائم. انفتحت خوخة الباب... صوت الأمومة من خشب السنط، آخر زاد ومفتتح للبلاد الأليفة».