أكثر من 30 دار نشر لبنانية دمرها القصف الإسرائيلي

ضاحية بيروت الجنوبية ليست فقط معقلا لـ«حزب الله»

TT

يبدو أن اليوبيل الخمسين جالب للشؤم في لبنان. فهذه السنة يحتفل «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» بيوبيله الخمسين، وهذه السنة أيضا كانت مهرجانات بعلبك تستعد للاحتفال بيوبيلها الخمسين، لولا المفاجآت التي حملها هذا الصيف العاصف للبنانيين. فالاعتداءات الإسرائيلية، أجهزت كذلك على عدد كبير من دور النشر التي يتمركز نحو تسعين منها في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي نالت نصيبها من القذائف والقازانات الإسرائيلية لتتناثر مئات «العناوين» في فلك الضاحية الذي تحول مدارا للطائرات الإسرائيلية طوال 33 يوما.

بعكس ما هو شائع، فإن الضاحية ليست فقط معقلا لـ«حزب الله»، وليست مجرد أحزمة للبؤس يقطنها أناس تحوّلوا بفعل «النشاطات» الإسرائيلية أعدادا من القتلى والجرحى وفي أفضل الأحوال مجرد نازحين... فالضاحية «ليست مربعا امنيا إنما مربع ثقافي»، كما قال نقيب اتحاد الناشرين اللبنانيين محمد إيراني خلال جولة تفقدية على دور النشر التي طاول القصف نحو ثلاثين منها بالإضافة إلى ما يقارب عشر مطابع.

جولة في الضاحية؟ حري القول جولة في شوارع الجحيم وأزقته. فالمكان استحال ظلمة وضبابية وأطنانا ركامية. ورغم ذلك تحول بعض أصحاب دور النشر نقّابين يعاينون تارة عمل الجرافات ويوقفونها طورا للبحث تحت الانقاض عما يمكن انتشاله من «عناوين» نالت هي ايضا جزاءها. الخسائر فادحة تتجاوز 50 مليون دولار ومرشحة للارتفاع الى 75 مليون دولار كما قال إيراني لـ«الشرق الأوسط»، مشيرا الى ان النقابة في انتظار استكمال الاحصاءات وتقديم أصحاب الدور الملفات المطلوبة منهم، وذلك «يتطلب التوجه الى المخفر والبلدية لتحديد رقم العقار، ثم الاستعانة بخبير محاسبة لتقدير حجم الخسائر وصولا الى مركز المساندة الاقتصادية في غرفة الصناعة والتجارة. وبعد أن تستكمل هذه الملفات يرفعونها الى النقابة ونحن بدورنا نقدمها الى وزير الثقافة طارق متري ليرفعها الى مجلس الوزراء للنظر في هذا القطاع الذي يعتبر جسرا ثقافيا حيويا». وتحدث إيراني عن السعي لإقامة دعوى على إسرائيل عبر اتحاد الناشرين العرب وقد وجه في هذا الإطار رسالة الى رئيس الاتحاد إبراهيم المعلّم. واعتبر إيراني أن المرحلة المقبلة «ستنتج ثقافة جديدة تبرز صورة العدوان وصمود اللبنانيين من حكومة وشعب ومؤسسات».

وأكد إيراني أن معرض بيروت العربي الدولي للكتاب سيفتتح في موعده في 9 ديسمبر (كانون الأول) والمشاركة في المعارض الأوروبية والأميركية: «يتحتم علينا النهوض لذلك عدنا الى التصدير وإن بكميات قليلة. فخلال الحرب والحصار لم نكن نطبع، فضلا عن ان المطابع التي كنا نعتمد عليها موجودة في الضاحية وقد دمّرت. كما ان دولا أخرى حلّت مكاننا خلال هذه الفترة وصدّرت مطبوعاتها. لكن أعتقد ان جودة الكتاب اللبناني لا تضاهى وسرعان ما سيعود الى مكانته».

«دار الهادي»، «دار المحجة البيضاء»، «مؤسسة احياء التراث العربي»، «دار ابن حزم»، «دار الحداثة»، «دار البلاغة» وغيرها من الدور المنتجة لكتب دينية سياسية ثقافية وأدبية تحولت غبارا في بقعة يتخوّف البعض ان تصبح «منسية» أو في عهدة «مَن لا يكترثون لمصيرنا». من كان يتخيّل ان ينهمك اصحاب هذه الدور والعاملون فيها في لملمة أجزائها والتقاط صور لضمّها الى ملف يوثق «موتها» بدلا من الانكباب على إنتاج مئات النسخ من كتب كانت معدة للتصدير الى الدول العربية المختلفة. مَن كان يعتقد أن أشهُر الإنتاج الثلاثة: يوليو (تموز) وأغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) ستتحوّل أشهرا لموت الكتب وطمرها بدلا من ولادتها؟ مَن كان يعتقد أن معاقل إنتاج الثقافة انتهى بها المطاف في خانة «القضاء على الإرهاب»؟ هكذا هي حال الكتَاب، لا يلبث أن يخرج من أزمة حتى تفتك به أخرى. ولكن كيف ستجمع هذه الدور «اشلاءها» لتمضي قدما من جديد؟ وهل يستحق هذا القطاع عناء النهوض في ظل ما كان يحكى عن ترد لأوضاعه؟ وما هي الكتب التي كانت ستصدر في هذا الخريف؟ أسئلة حملتها «الشرق الأوسط» إلى عدد من دور النشر التي تضررت بشكل كلي أو جزئي خلال الحرب الأخيرة. أما الإجابات فغالبا ما قوبلت بأسئلة تشوبها تنهدات نابعة من عمق الأسى على ضياع أعوام من العمل والشقاء. فمهمة أصحاب الدور ومديريها تقتصر الآن على ملء طلبات حكومية ومراقبة عمل الجرافات علّهم يستطيعون انتشال شيء من مقتنياتهم أو في أفضل الأحوال مرافقة أحد الخبراء لتقويم الأضرار وتقدير الخسائر أو حتى الإجابة عن أسئلة الصحافيين ومناشدة المسؤولين اللبنانيين والعرب للنظر في أوضاعهم البائسة.

الجميع متخوّفون من «عدم جدية» المعنيين في التعامل مع خسارتهم وأجمعوا على أن الآليات المتبعة «تقليدية» وتستغرق وقتا طويلا، فضلا عن وجود جزء كبير من الأضرار التي لا تعوّض منها لوحات الطباعة والأفلام والأقراص المدمجة و«مكاتب التحقيق» التي تتضمن منشورات من الدور المختلفة. ويأسف مدير «دار المحجة البيضاء» احمد الخرسا لشرائه طوابع بريدية «لأن ثمنها خسارة تضاف الى خسارتي»، فيما يطالب مسؤول العلاقات العامة في «دار الهادي» حسين عز الدين بتعيين لجان للكشف على الأضرار والتأكد من حجم الخسائر الكبير: «نعمل على اعداد الملف الذي طلب منا لتقديمه الى (نقيب اتحاد الناشرين) محمد إيراني ليرفعه بدوره إلى الجهات المسؤولة». ويسأل مدير «دار البحار» أحمد مغنية «ما نفع الدواء بعد موت المريض؟ ليس لدينا القدرة على الاستمرار في هذا الشكل».

وفيما يرزح الجميع تحت هول الكارثة، ثمة من يبدي تصميما على تخطي المحنة. فبعدما غابت الدور اللبنانية عن عدد من المعارض العربية ها هي قد باشرت الاستعداد للمشاركة في معرضي الشارقة حيث تم اعفاؤهم من الرسوم، والكويت حيث قدمت لهم تسهيلات تقنية. أما في جدة فقد تدخلت السفارة السعودية لتسهيل إعطاء التأشيرات. وعرض وزير الثقافة اليمني إقامة معرض مستقل لدور النشر اللبنانية تحت عنوان «معرض صمود لبنان» في 28 أكتوبر (تشرين الأول). اما معارض الكتب المحلية فقد دمّرت كليا ومنها معرض «المعارف» (في الضاحية). البعض طبع بضعة كتب، تتمحور مواضيعها على الحرب الأخيرة كمحاولة لأرشفتها وإبراز همجيتها. يقول صاحب «دار الأمير» محمد بزي الذي بلغت خسارته نحو 300 ألف دولار بسبب تهدّم جزء من مكاتبه: «أيعقل أنني لن أستطيع دفع الأقساط الجامعية لابنتي بعد 50 عاما من العمل؟». لكنه يضيف: «سنحارب إسرائيل إعلاميا. في غضون أيام سأنشر كتابين عن هذا العدوان الذي طاول أيضا البنى الثقافية. ويتضمن احد الكتب مقتطفات من صحف اجنبية حول الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. وإضافة الى المشاركة في معرض جدة، تعمدت المشاركة في معرض الأردن الذي غبت عنه لعشرين عاما وذلك إظهارا لنيتي الصلبة في الصمود. فهناك ينتشر عدد كبير من الإسرائيليين».

لكن منسوب الحماسة يتراجع عند البعض الى حد الانحسار، فخسائر أحمد قصيباتي صاحب «دار ابن حزم» وصلت الى مليوني دولار فيما المستودع ومساحته 1500 متر مربع، لا يزال يحترق. «من سيعوضنا؟ لن أطالب دولتي بالتعويض إنما الذين ارتكبوا هذه الأفعال».

الحل؟ ربما دهاليز اليأس لا تسمح بتسرّب خيوط الأمل الى هؤلاء المنكوبين، إذ يبدي قصيباتي تشاؤما مطلقا «أي حلّ؟ سأبيع ما تبقى لي وأهاجر، فأرض الله واسعة. لقد خسرت ما بنيته طوال 18 عاما وقبل اشهر من نشوب الحرب كنت قد سددت ثمن المستودع الجديد. لن أشارك في أي معرض». أما عصام صالح صاحب «دار التقدم العربي» فتكررت قصته مع الاعتداءات الإسرائيلية التي سبق أن خبرها في عام 1982 خلال اجتياح لبنان «لن يتمكن من المشاركة في أي معرض لتعذر إرسال نماذج الى الرقابة وشحن الكتب». «دار المحجة البيضاء» وصالات العرض التابعة لها احترقت كليا ولم يسلم شيء من الأرشيف أو من الكتب التي كانت جاهزة للطباعة «الخسائر تقارب ثلاثة ملايين دولار، أما الزيارات التفقدية فمخصصة للإطلالات الإعلامية. كيف سأبني من جديد فذلك يستلزم مبالغ طائلة»، يقول الخرسا، مشيرا الى التحضير لنشر كتاب «33 يوما هزت العالم» لهشام قطيط. ويقول مسؤول العلاقات العامة في «دار الهادي» حسين عز الدين: «دمّر مستودعنا كليا وبقيت المكاتب وصالات العرض. قدّرت الاضرار بـ800 ألف دولار ولكن الموجودات تصل الى مليون ومائتي الف دولار. فقدنا كل الأصول في المستودع والديكور الذي كنا نستخدمه للمشاركة في المعارض وتقدر قيمته بـ 25 الف دولار. لكننا سنعد ديكورا آخر ونشارك في معرض بيروت العربي الدولي. سنجمع ما أمكننا من النسخ لإعادة طبعها. لقد عدنا الى نقطة البداية». ورغم ذلك شاركت الدار في معرض جدة للكتاب وتستعد للمشاركة في معارض البحرين والكويت «ولاحقا مصر المغرب وايران». وفي خضم هذه الكارثة تعمل الدار على اصدار ما بين ثمانية كتب وعشرة ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود مستودع لحفظها.

هكذا عاد عدد كبير من دور النشر اللبنانية الى نقطة البداية. ثمة من يرى في النهوض أمرا مستحيلا، وثمة من يعتزم وضع حجر الأساس، فهل يتعثرون أم يحظون بفرصة المبتدئين؟