القرابة والسياسة عند العرب

«أدب الأنساب» في كتاب لبناني

TT

ما هي الصلة بين بحث أكاديمي يتناول الجذور التاريخية للإيلاف، وبين ما يدور من حولنا وفوق رأسنا؟ أمران جعلاني على قناعة بأن هذا الكتاب صالح للكتابة عليه في هذا الوقت. فالبحث في جذور العلائق العربية يؤكد الأصول الثابتة المبنية عليها والتي ما زالت مستمرة رغم شوائب الترك والفرس والصليبيين والمغول والمماليك والعثمانيين. والوضع الراهن يدعونا إلى مزيد من العلم والدراسة والبحث، وإلى الانتباه لما عمَّمه فينا الغرب عن تاريخنا.

هذه الدراسة ذات صلة أولية بالواقع الراهن، فما نطلق عليه اليوم تسمية العالم العربي هو امتداد تاريخي لقبائل خرجت من الجزيرة العربية، قبل الإسلام وتوسعت بعد الدعوة، واندمجت في الشعوب الأصلية على امتداد الجغرافية العربية لتكون شعباً واحداً توحدت لغته وعقيدته وسُلَّم قيمه، وعاداته وتقاليده، وتشابه سلوكه ونمط حياته. وتفرد عن العالم الإسلامي ببعض الخصائص كاللغة والعادات مثلاً على الرغم من توحّد العقيدة، فاتخذ تسميته الخاصة. هذه القبائل والعشائر والمجموعات البشرية شكلت في توزعها وانتشارها وابتعادها عن مركزية انطلاقتها في الجزيرة العربية اهتماماً بـ«أدب الأنساب». وغذّى هذا الاهتمام شعور عام وشائع في وعي الكثير من الدارسين للتاريخ العربي في العصر الوسيط، بأن مصادر النسب تمثِّل من ناحية صنفاً ثميناً من التوثيق، ولا مبالغة في القول إن لدارس التاريخ بشكل عام موقفاً ذهنياً إيجابياً من أدب الأنساب لما فيه من إطلالات جديدة وجدّية وقريبة من المجتمع العربي التاريخي الحقيقي.

من المعلوم أن الأدب التاريخي العربي تبلور في محيط دعوة دينية، تطرح مسألة مركزية تعود جذورها إلى بداية انفتاح تاريخ الإسلام الأول على آفاق مقاربة تاريخية بالمعنى الحديث للكلمة تتمثل في صدقية مضامينه بشكل عام، ومدى إمكانية اعتبارها إخباراً تاريخياً يحيل على واقع تاريخي حدث فعلاً، ومدى شمولية هذا الإخبار كتوثيق للأوجه المختلفة لهذا الواقع. وكلما تزايد التزام الباحث وسعيه للإلمام بالمستوى التاريخي تنامى الشعور لديه بأن الأدب العربي لا يرسم إلاّ جانباً من الحقيقة. لذلك بدا للمؤلف أن مصادر النسب الواقعة على هامش الدائرة التي تمثلها التواريخ والسير، أنها أكثر يقيناً في توضيح المسار التاريخي والمستوى الاجتماعي مما يعدّل في الرؤى السابقة.

لقد كشفت لنا بعض الدراسات أهمية روابط القرابة في الحقل السياسي، وأن توظيف هذه الروابط لم يقتصر ويتوقف على حدود النخبة الحاكمة، إنما امتد إلى شبكة واسعة من الموالين لهذه النخبة الذين يمثلون بدورهم ما يشبه العائلات القيادية. معنى ذلك أن ما يضعه الأدب التاريخي العربي القديم والحديث على سجل المواقف السياسية لأحزاب مميزة لم يكن في واقعه إلا مجرد امتداد لصلات القرابة يصل حد التوارث للمواقف من المسائل السياسية، ولا يمكن في الحقيقة فهم توزع الأدوار السياسية فيه إلاّ بالنظر إلى هذه الامتدادات ذات الطبيعة الأنثروبولوجية، التي تمثل أحد العناصر الأساسية في الدينامية السياسية والتي خفّ أثرها في عصرنا الراهن، لكن شجرات الأنساب ما زالت معلقة على جدران البيوت، وما زال الفخر بالانتماء النسبي وبالقرابة قائماً ووارداً ومعمولاً به.

لا يحاول المؤلف إعادة بناء روابط النسب والقرابة بناء تقنياً وشكلياً مفرغاً من كل تاريخ على عادة علماء النسب الأقدمين، بل ينطلق من طرح المسائل التاريخية المحيطة بجذور الإيلاف، ويحاول أن يمثل لها حلولاً فيرتقي بالمستوى الجزئي إلى مستوى التاريخ الكلي رغم الصعوبات المنهجية في هذا الصعود. فيحاول أن يلخص في نسب العائلات الرمزية للإيلاف ما يمكن أن يلخِّص الكتلة الاجتماعية التاريخية. ويعترف بأن كل تاريخ اجتماعي هو تاريخ منقوص ولا يمكن استعادته بشكل كامل. فرغم حضور المجتمع الكامل حضوراً ذهنياً ومتخيلاً في المرويات، ورغم أن التوثيق كشف عن بعض جوانبه، فإنه يبقى مجتمعاً مجهولاً، لأن الأجزاء المكشوفة منه لا تستمد قيمتها من امتدادها المادي بقدر ما تستمده من دلالاتها التاريخية. كذلك فإن التوثيق ظل على حدود العينة لأن المصادر هي التي قررت، وهذه المصادر تأبى الإخبار بشكل واضح مما اضطرنا إلى تجاوز حدود العائلات المدروسة وتابعنا كل ما يحيل على العالم القبلي الموزع على منطقة شاسعة تمتد من جنوب الحجاز إلى جنوب فلسطين، خصوصاً أن التاريخ الباقي في المصادر هو تاريخ النخبة السياسية والاجتماعية والعقائدية، وكان لهذه العائلات في مراحل تالية أدوار طلائعية في المستويات الاقتصادية والدينية والعقائدية، من مرحلة الإيلاف إلى العصر العباسي إلى عصرنا الراهن. فإذا كان بديهياً أن المقاربة التاريخية تحتفظ بشمولية النظر، وتكشف عن السيرورة التاريخية العامة، فإن هذا كلّه لا يقلل من أهمية ما يسوقه ويتضمنه تاريخ النخبة من إنارة للمسار التاريخي العام. فيصبح من الشرعي منهجياً البحث في تاريخ هذه الفئة للعثور على بعض مفاتيح السيرورة العامة.

المعنى المركزي لكل الأسئلة التاريخية المضمّنة في البحث أن هذه العائلات ونسيج النسب والقرابة في ما بينها لم يعد موضوعاً اجتماعياً بقدر ما أصبح موضوعاً تاريخياً، على الأقل ببعض محطاته الهامة والمتداخلة. منها التجارة، مؤشرات الاندماج الاجتماعي، النسب كوثيقة تاريخية، رواية الإيلاف من منظور تفهمي وغيره لنفتح في الأخير آفاقاً على المرحلة الإسلامية.

من الطبيعي أن يتقلص وزن التاريخ الوقائعي نظراً لطبيعة المصادر، وأن يعتمد المؤلف في تكوين رؤيته من مستوى الفهم، وأن يوظف الروايات الأصلية وتناقضها وتشابكها وتوافقها في سياق التاريخ السياسي لدول الإسلام. فاعتمد على الإيلاف، وهو العقد الأكثر وضوحاً في المصادر، ليقترب من الصورة الأولية للبداية والتمفصل، لإعطاء صورة جديدة للاندماج الاجتماعي وليعيد النظر في الوحدات الاجتماعية التي قامت بدور الوحدات الانتسابية للوقائع سواء في المصادر أو في الدراسات الحديثة.

لا يحاول المؤلف أن يرقى بالاستنتاجات إلى درجة النظرية بل يسعى لتوفير منطلقات لتاريخ اجتماعي لا يزال قائماً في عصرنا الراهن في الكثير من العلائق الاجتماعية والقيمية والسلوكية، وذلك لأن التاريخ الاجتماعي من أقل التواريخ تقبلاً للنظرية. لذلك، لا يمكن اعتبار الاستنتاجات تأويلاً نفسّر به تاريخاً لاحقاً، أي لا نعتبرها إجابة عن تلك الأسئلة والمسألة الحاضرة والمتمثلة في نشأة الإسلام وتاريخ الإسلام. على الرغم من أننا لا يمكن أن نهمل الفواصل الزمنية بين الإيلاف والإسلام وتداعياتها، كما لا يمكن أن نهمل اتساع الدائرة الاجتماعية المعنية بالحركة التاريخية زمن الدعوة والتحولات المستجدة ليس في منطقة الحجاز وإنما أيضاً في اليمن واليمامة وغيرهما من بؤر الحركيّة التاريخية في العالم القبلي، وأثرها على دخول الشعوب في الإسلام وتداخل الثقافات وتمازج الحضارات بما أصبح يطلق عليه «الحضارة العربية ـ الإسلامية». لأن المرحلة الإسلامية، هي في بعض مظاهرها فقط مستقبل مرحلة الإيلاف، ومرحلة الإيلاف هي ماضٍ للمرحلة الإسلامية.

وإذا كانت أطر النسب لا تعكس مجتمعاً تاريخياً بسبب حراك هذا المجتمع الذي يستحيل أن يظل قبلياً بشكل مستديم، فإن توالد الفئات والانتماءات مهما أطلق عليها من تسميات جديدة تظل تحتفظ بذاكرتها الجمعية بأصولها النسبية. ومجرد الوعي بمدى المسافة الفاصلة واللاحمة بين النسب والمجتمع التاريخي الحقيقي والمزعوم يعطي دراسة الأنساب مشروعيته. وعلى الأقل، في ما لو اعتبرنا أن الأنساب وفق شجرات الأنساب غير صالحة للتوثيق، وأنها ليست محايدة دائماً لتكون مصدراً موثوقاً، فهي على كل حال تمثل الشكل الذي ربما يكون قد ساد في مرحلة معينة من تاريخ المجتمع، تم تعميمه على ما هو سابق أو لاحق.

ونتيجة لهذا المسار الذهني فإن المؤلف ينظر إلى النسب باعتباره يمثل الترسبات لمراحل تاريخية متعاقبة، وأصداء لما تبقى في الذاكرة. فتوزيع القبائل العربية المعمم قيسية من ناحية ويمنية من ناحية أخرى، رغم ما يتخذه من شكل مقنن في مستوى النسب لم يكن في جانب كبير منه إلاّ انعكاساً لمواقف سياسية متباينة بين قسمين من المجتمع، تبلورت حول مسألة الشعوب غير العربية في دولة الإسلام. ففي حين كانت اليمنية تمثل حزب الموادعة والدمج للعناصر غير العربية، كانت القيسية تمثل الحزب الساعي لتأبيد أولوية العنصر العربي على حساب بقية العناصر المسلمة غير العربية.

تتقاطع هذه الدراسة، بحكم طبيعتها الاجتماعية، مع مسائل كثيرة تتراوح بين مسألة التجارة القرشية في مرحلة قبل الإسلام، ومسائل التاريخ الإسلامي في حلقاته الأولى، وتوفير عناصر المراقبة الدقيقة للتطور التاريخي، إذ بالمستوى الاجتماعي يمكن قياس التحولات بشكل أدق، ويمكن تشكيل مرحلية معقولة تنتفي بها الأحكام العامة.

هذه الدراسة لا تجيب إلاّ على مستوى حقيقة التاريخ، وتبقى نتائجها مؤقتة بانتظار «تحيين» آخر. لكنها تؤكد أن مجموعة من الحلول الأخرى، والاستنتاجات المخالفة سيتصدّى لها باحثون أخرون، لأن الحقيقة الكاملة أو الحصيلة النهائية أكثر تعقيداً في أبحاث التاريخ الإنساني.