ذكرى 11 سبتمبر تنعش سؤال: ما هي حدود الإباحية في أميركا؟

بعد قرار المحكمة العليا وظاهرة «بريتني سبيرز»

TT

كان من المتوقع أن يحدث أي شيء في الذكرى الخامسة لتفجيرات 11 سبتمبر إلا أن تكون هذه المناسبة هي الشرارة التي تعيد طرح السؤال حول مدى الإباحية المسموح بها في أميركا. فالمفارقة بين الحزن الشديد الذي سببته ذكرى التفجيرات والتعري الفاضح الذي ظهر في ذلك اليوم، جعل العديدين يتساءلون، هل حقاً بمقدور الحرية ان تكون بلا حدود؟

احتفل الأميركيون في 11 سبتمبر الماضي، بمرور الذكرى الخامسة للهجوم الارهابي. كان يوم حزن عام، وزار الاميركيون الكنائس، وعرضت التلفزيونات برامج عن الهجوم، وخاطب الرئيس جورج بوش الشعب. لكن، اثارت النقاش اشياء جانبية (او ربما غير جانبية) حدثت في ذلك اليوم. اولا، عرض تلفزيون «سي بي اس» برنامجاً تضمن ألفاظا نابية ومناظر إباحية. ثانيا، اشتكى مشتركون في سباق تذكاري للرجال والنساء بالقرب من البنتاغون، من أن نساء في السباق لبسن ملابس كشفت عن اجزاء كبيرة من اجسادهن. ثالثا، عرضت افلام خليعة في ذلك اليوم، لا تليق بالمناسبة.

من ناحية، قال بعض الناس ان الاباحية والخلاعة والتعري لم تسئ فقط الى اليوم التذكاري، ولكن، ايضا، زادت عن المعقول في كل اميركا. وقال أناس لهم رأي آخر، إن الذين ضحوا بحياتهم في هجوم 11 سبتمبر (وفي الحرب ضد الارهاب) فعلوا ذلك حماية للحرية الاميركية، والتي يجب الا تكون لها حدود. لكن، ما هي حدود الحرية؟ ناقش الكونغرس الموضوع، في الشهر الماضي، واصدر قانونا ضاعف عشر مرات الغرامة على اي قناة تلفزيونية تعرض منظرا اباحيا، حيث تدفع من 30,000  الى 300,000 دولار. اشتهر القانون باسم «قانون جانيت جاكسون»، شقيقة المغني مايكل جاكسون، التي غنت، قبل اكثر من سنة، خلال فترة الاستراحة في المبارة النهائية لكرة القدم الاميركية (سيوبربول). وكشفت، خلال الغناء، واحدا من نهديها، وقالت انها لم تتعمد ذلك. غير ان تحقيقا في الموضوع، كشف بأنها فعلت ذلك حسب خطة مسبقة اشتركت فيها شبكة التلفزيون التي عرضت البرنامج.

منعت المادة 18 من القانون الجنائي الاميركي التلفزيونات والاذاعات من عرض اي «اباحية وقلة ادب وخلاعة». لكن لم يقدر الاميركيون، حتى الآن، على الاتفاق على تفسير ذلك. منعت، في البداية، لجنة الاتصالات الفيدرالية «اف. سي. سي» التي تشرف على التلفزيونات والاذاعات، كل شيء «له صلة بالجنس». لكنها، بسبب ضغوط من الذين قالوا ان اللوحات الفنية والتماثيل ليست اباحية، منعت كل شي «له صلة بالجنس»، حسب الشروط الآتية: اولا، اذا عرض بهدف الاثارة. ثانيا، اذا تكرر عرضه. ثالثا، اذا ركز على تفاصيل لا داع لها. لكن، حتى هذا لم يحسم النقاش. وقالت مجلة «تايم»، في موضوع غلاف عن الاباحية، ان اشياء كانت غير مباحة أصبحت مباحة خلال خمسين سنة. واشارت الى ان لباس البحر، كان قبل مائة سنة، يغطى ساقي المرأة، ثم اصبح، بعد خمسين سنة، يكشف عن الساقين والفخذين، ثم اصبح بعد خمسين سنة اخرى، يكشف البطن (البيكينى).

سارت قوانين منع الاباحية في اميركا على خطى قوانين مماثلة في بريطانيا، يعود بعضها الى ثلاثمائة سنة تقريبا. لكن، هذه نفسها، ظلت غامضة، وظلت تتغير مع الزمن. في سنة 1727، حوكم ادموند كيرل، مؤلف قصة «فينوس»، لأن فيها تفاصيل عن علاقة جنسية. وفي سنة 1960، حوكمت دار نشر «بنغوين»، لأنها نشرت قصة «عشيق الليدي شاترلي» لأن فيها تفاصيل علاقات جنسية. وفي سنة 1980، حوكمت استوديوهات انتجت افلاما اباحية. لكن ظهور افلام الفيديو التي يمكن ان تشاهد داخل المنازل، حير المحاكم البريطانية، وربما انتصر عليها: في سنة 2000 سمحت هذه المحاكم بانتاج افلام خليعة ولكن بشروط. وفي سنة 2005، فرقت بين انتاج وامتلاك افلام خليعة (لكنها ظلت تمنع ارسال افلام خليعة بالبريد).

وحدث نفس الشيء بالنسبة للمحاكم الاميركية، وحسم النقاش قرار المحكمة العليا (التي تفسر الدستور)، في سنة 1973، بأن الاباحية «تعتمد على الذوق والمحتوى والمنطقة»، اي ان ولاية ساوث كارولينا المحافظة وولاية كاليفورنيا الليبرالية ربما تختلفان في منع او عرض فيلم اباحي. وفعلا، بدأت كاليفورنيا بالسماح لكل من يزيد عمره عن 18 سنة بمشاهدة افلام اباحية، وخلال سنوات قليلة فعلت ولايات اخرى نفس الشيء، حتى لم تعد هناك ولاية لا تفعل ذلك.

حيرت افلام الفيديو القانون الاميركي، والآن يحيره الانترنت (مائة مليون موقع، حسب آخر احصائية). في سنة 1994، اسس مكتب التحقيق الفدرالي (اف بي آي) «الفرقة المعادية للاباحية» التي قدمت للمحاكمة موقع «ريد روزز ستوريز» (قصص الوردة الحمراء) لانه نشر احلاما وخيالات جنسية لاولاد وبنات. وفي سنة 1996، اصدرت ولاية ألاباما قانونا قال: «لا تشمل حقوق الانسان الاساسية حق مشاهدة مواد تثير الانسان جنسيا»، وفي نفس السنة افتت وزارة العدل بأن «الحكومة يجب ان تراقب مواقع الانترنت مثلما تراقب برامج التلفزيون والاذاعة». لكن، في سنة 1997، حسمت المحكمة العليا النقاش، واعلنت ان «الانترنت سوق افكارا من نوع جديد ودراماتيكي، وانه مثل مكتبة عامة يجب ان يحميها الدستور».

لكن، ماذا عن المواقع والافلام الاباحية في الانترنت؟ وماذا عن مشاهدة الاطفال لهذه المواقع؟ اجابت المحكمة على السؤال الاول بالآتي: «يذهب الانسان الى الموقع الاباحي الذي يريد، ولا يفرض هذا الموقع نفسه على الانسان». واجابت المحكمة على السؤال الثاني بالآتي: «يحمي الدستور الولد الصغير من اي اذى يتسبب به الكبير. لكن، يجب الا يقيد الصغير حرية الكبير».

وهكذا، ظلت المحكمة العليا، رغم زيادة قوة المسيحيين المتطرفين والجمهوريين المحافظين، تدافع عن حرية المواطن الاميركي ليقول ما يريد، ويفعل ما يريد (خاصة اذا فعله داخل منزله).  لكن، يستمر النقاش حول الخط الفاصل بين المنزل والشارع، بين الخاص والعام.  

يسمي بعض الاميركيون هذا النقاش «ظاهرة بريتني سبيرز»، اشارة الى المغنية الشقراء التي اشتهرت بكشف اجزاء كثيرة من جسمها عندما تغني على المسرح. وتركز النقاش حولها لأنها تعمدت ذلك منذ قبل ان تشتهر، مما جعل بعض النقاد يقولون إن شهرتها ليست بسبب اغانيها.

وأشار هؤلاء الى صورتها، قبل سبع سنوات، عندما كان عمرها ست عشرة سنة، على غلاف مجلة «رولنغ ستون». وعرفت الصورة بـ«لوليتا وسرتها»، اشارة الى انها صورة بنت صغيرة مثيرة، مثل صورة البنت الروسية في الفيلم المشهور، لكن «بريتني» كشفت عن سرتها ووسط بطنها.

وفي الشهر الماضي، ظهرت «بريتني» على غلاف مجلة «بازار»، التي تهتم بالازياء والملابس الانيقة، بدون ان تلبس اي شيء، وكان واضحا انها حامل (وضعت، في الاسبوع الماضي، طفلها الثاني). واحتمت «بريتني» بقرار المحكمة العليا، وقالت ان الدستور الاميركي يعطيها حق ان تفعل ما تريد. ولكن ماذا عن صغار السن، من معجبيها وغير معجبيها؟ أجابت: «انا لست مربية اطفال. لماذا لا يحمي الآباء والامهات اولادهم وبناتهم؟» وأضافت: «كل من لا يريد ان يشاهدني بمقدوره أن يغير القناة التلفزيونية».

 واثار النقاش حول الاباحية نقطة اخرى، وهي الخط الفاصل بين المباح وغير المباح، خاصة لأن المحكمة العليا قالت ان كل ولاية تملك حق تحديد ذلك، اي ان ذوق ولاية يمكن ان يختلف عن ذوق ولاية اخرى.

واعتمد النقاش عن «الذوق» على خلفية تاريخية، تعود الى اوروبا خلال العصور المظلمة عندما كان «ذوقا دينيا»، وكانت الكنيسة تحدد المباح وغير المباح. وبعد الاصلاح الديني في القرن السادس عشر، صارت كثير من الرسوم والتماثيل العارية مباحة ما دامت تتماشي مع «الذوق العام». وبعد ظهور الرومانسية في القرن الثامن عشر، صار «الذوق الخاص» هو المقياس، اي ان الفرد هو من يحدد المباح وغير المباح، وظهر شعار «الجميل هو ما تحدد عين الانسان». وبعد ظهور طبقة المثقفين في القرن التاسع عشر، صار «الذوق المثقف» هو الذي يحدد المباح، واختلف هذا الذوق عن «الذوق الشعبي». 

وظهر في الولايات المتحدة «الذوق المتساوي»، اشارة الى عبارة «كل الناس خلقوا متساوين» في الدستور الاميركي. وحاول الاميركيون، في مثالية، تحقيق ذلك، لكنهم اكتشفوا ان الناس اذواق. واكدت ذلك المحكمة العليا بقراراتها بتنوع الذوق وتنوع مقاييس الاباحية. 

لكن، كان واضحا ان هذه القرارات انحازت الى جانب ذوق الاغلبية المسيحية البيضاء التي تسيطر على الثقافة الاميركية، والتي صارت المغنية «بريتني» رمزا له، وذلك من ناحيتين: اولا، صار مقياس الجمال هو بشرتها البيضاء وشعرها الاشقر.  وثانيا، صار مقياس الاباحية هو نسبة ما تكشف من جسدها. كانت المحكمة العليا و«بريتني» سيضعان مقياسا مختلفا للاباحية لو لم تكن تسيطر الثقافة المسيحية البيضاء على اميركا، ولو لم نكن في بداية القرن الحادي والعشرين.

 في القرن التاسع عشر، عارضت الثقافة البريطانية خلال العهد الفكتوري، كشف المرأة لساقيها في مكان عام. وفي النصف الاول من القرن العشرين، عارضت الثقافة الاميركية كشف المرأة لفخذيها في مكان عام. وفي النصف الثاني، بعد الثورة النسائية وثورة الحقوق المدنية، عارضت كشف المرأة لسرتها وبطنها في مكان عام. وها هي الآن تسمح، تدريجيا، بذلك.

لكن ما تزال الثقافة الافغانستانية، تعارض كشف المرأة لوجهها حتى بعد نهاية حكومة طالبان. وتعارض ثقافات اسلامية كثيرة كشف المرأة لشعر رأسها، رغم الزيادة المستمرة في تأثير الثقافة الغربية، ورغم خروج المرأة المسلمة للعمل خارج البيت. وفي الجانب الآخر، لا تعارض الثقافة الافريقية في جنوب السودان مثلاً، كشف المرأة لكل جسمها، ولا ثقافة غيانا الجديدة (في اندونيسيا)، ولا في مناطق الاقزام الافارقة (في الكاميرون وزائير وغيرهما).