عادل حجي: شاشة التلفزيون في خدمة الثقافة

نخلة صغيرة تخرج من أرض روتها مياه الفلاسفة

TT

معركة طويلة وشاقة قادها عادل حجي من منزله إلى الصحافة المكتوبة ومنها إلى شاشة التلفزيون، ليقول للناس أجمعين إن الثقافة ليست قصراً على نخبة صغيرة، وانها خبز يومي لا بد منه لكل الأرواح الجائعة. معركة عصية وجميلة، تنقل بطلها في العواصم والتجارب محاولاً أن يبني لرؤية جديدة بمقدورها أن تمهد لانقلاب في المفاهيم. فمن هو عادل حجي؟ وكيف قاد مغامرته؟

خرج الصحافي عادل حجي من شجرة أنساب ضاربة في العراقة. فهو سليل عائلة معروفة بالعلم والتصوف. جده سيدي أحمد حجي الولي الصالح الذي يتبرّك به السلاويون، وأقاربه سعيد حجي مؤسس الصحافة المستقلة والحديثة في الثلاثينات، أبوه الصحافي المبدع عبد السلام حجي، وعمه المؤرخ المرحوم محمد حجي. لذلك فاختيار مهنة المتاعب في شقها الأدبي لم يكن غريبا على تاريخه العائلي. لكن، قبل أن يركب بحار الصحافة الثقافية ببرنامجه الجديد «ما بين السطور» على القناة المغربية الثانية، من هو عادل حجي؟

ولد عادل حجي في الدار البيضاء، بالصدفة. وترعرع بين بيت أمه فيها، ومنزل آل حجي بسلا. كان صبيا تثيره عوالم الكتب السحرية، لا سيما في بيت والده الذي كان يضم خزانتين ضخمتين. قرأ في البداية كل أنواع الأشرطة المصورة. وفي سن 15 بدأت عيناه تتفتحان على نصوص أدبية لأندريه جيد، كامو، سارتر، دوستويفسكي. كان كنسر في سماء القراءة ينقض على النصوص التي تشحذ فكره، ويلتهم المجلات المعروفة آنذاك مثل «لاكانزين ليتيرير»، «إسبري»، «الأزمنة الحديثة»، فشكلت بالنسبة للصبي غذاء روحيا بين 15 و16 سنة من عمره. نخلة صغيرة تخرج من أرض روتها مياه الفلاسفة. يقول عادل عن بيت أبيه: «عندما كانت توقظني جدتي رحمها الله في الصباح، كانت تجدني دائما نائما بين الكتب. وكانت في خزانة أبي الكثير من الكتب التي لم أقربها. وهي كتب الشرق. كنت مأخوذا بالفلسفة العقلانية الغربية. كان ميلي أوروبيا متمثلا في هيغل، سبينوزا، ستاندال. لم اكتشف الكتب التي تغذيني اليوم والتي كانت موجودة في خزانة والدي إلا لاحقا كالحلاج، ابن عربي، السهروردي».

باريس، يا باريس.. سافر الشاب عادل حجي إلى عاصمة الأنوار، واستقر عند كلارا مالرو، زوجة أندريه مالرو الأولى، التي كانت صديقة لوالده. سهرت على تثقيفه وفتحت له أبواب باريس. في بيتها، التقى الكثير من الفلاسفة والفنانين. عن تلك الفترة يقول حجي: «اكتشفت رامبو، السوريالية، أرتو والموسيقى الكلاسيكية. وفي الحقيقة أنني منذ كنت في الخامسة عشرة كان حلمي أن أصير فيلسوفا. نشرت بعض المقالات في مجلات فلسفية، وأصدرت مع أحد أصدقائي مجلتين هما «مودرن» و«أمازون» اللتان كنا نوزعهما في الشوارع، كما اشتغلت بالراديو وإحدى وكالات الأنباء كمتدرب. في شبابي، كانت الصحافة عيني على العالم، ولا تزال».

بعد مرحلة «الثمالة الرومانسية»، كما يحلو لعادل أن يسمي دراسته الأدبية في باريس، عاد إلى المغرب. وركب مع صديقة الدراسة الكاتبة والصحافية هند الطعارجي ونور الدين عيوش رجل الإعلان المعروف في المغرب تجربة مجلة «كلمة» الشهيرة التي غيرت صورة الصحافة المغربية. وقد تحلق حول هذه التجربة الجريئة العديد من الكتاب المغاربة كفاطمة المرنيسي وعبد الله حمودي وعبد الرحيم برادة وإدريس الموساوي وعبد الله زريقة. ولاقت المجلة نجاحا كبيرا لأنها تبنت لغة فرنسية وظيفية موجهة للجمهور العريض وركزت على النقد الاجتماعي، وحقوق المرأة، مستعملة التحقيقات الميدانية والحوارات والشهادات الحية. هذه المقاربة كانت تختلف عن الصحافة الثقافية السائدة باللغة الفرنسية آنذاك والتي كان يغلب عليها التحليل والتنظير والاختصاص كمجلات «الأساس» و«لاماليف» وغيرهما. ونظرا لهذه الجرأة تعرضت بعض أعدادها للمنع كالعدد الخاص بالمثلية الجنسية أو التربية الجنسية للأطفال. وانتهى بها الأمر إلى التوقف النهائي خصوصا بعد خفوت حماس ممولها نور الدين عيوش. «في تلك الأثناء، كنت أفكر في كيفية إعادة الاعتبار للصحافة الأدبية، فأصدرت، في نهاية الثمانينات، مجلة «ليبرومون» التي صدر منها عدد يتيم ساهم فيه العديد من الكتاب المغاربة كعبد الفتاح كيليطو، وعبد الله حمودي، والطاهر بن جلون وإدمون عمران المالح».

انتقل عادل حجي من الصحافة المكتوبة إلى التلفزيون، فقدم في بداية التسعينيات برنامج الكتب الناجح «زمن القراءة». ورغم أن القناة الثانية كانت مرمزة آنذاك، فقد استطاع أن يفرض نفسه بنوعية التصور الثقافي الرفيع الذي كان يستشف من حلقاته المتوالية. «كانت فكرتي بسيطة، تمثلت في تقريب الناس من الأدب والكتاب بواسطة الصورة، أي إفراغها من لا معناها وتفعيلها بحمولة ثقافية جديدة». وهكذا قدم البرنامج حلقات قوية مع بول بولز على سرير مرضه، وعبد الكبير الخطيبي، وجمال الدين بن الشيخ، وأندريه ميكيل.

بعد تجربة «سريعة» في مجلة «ضفاف»، التي أصدرتها مؤسسة الحسن الثاني للمهاجرين المغاربة، عاد عادل حجي للصحافة الثقافية المستقلة فتعاون مع صحف عديدة في المغرب مثل «لوجورنال» وفي الخارج مثل «لوموند ديبلوماتيك» أو «الإكسبريس». إن قوته تتمثل في حفاظه الدائم على المسافة النقدية حيال الواقع الثقافي. «في المغرب، ليست هناك صحافة ثقافية حقيقية... هناك صحافة سياسية وأخرى للإثارة. والسبب أننا ما زلنا نؤمن بالأولوية الاقتصادية منذ الستينات، وهو ما معناه أن الثقافة في بلد متخلف غير ضرورية». هذا التصور ولّد مثقفين عضويين يدافعون عن المؤسسات، همهم المرور بسرعة من الصحافة الثقافية إلى السلطة. «يمكن أن نقول إننا في المغرب نجد ملاحق ثقافية أو صفحات ثقافية، لكنها لا تتحدث عن الثقافة. تستعمل الثقافة إذن كوسيلة أخرى للعقل السياسي. فبمجرد ما يصل المثقفون إلى مناصب المسؤولية في الدولة والأحزاب والجمعيات يتخلون عن الثقافة» ما يضعنا أمام خطاب صحافي ثقافي، يغيب فيه، في الغالب، تحليل الواقع وبناء تصورات استراتيجية للمستقبل.

ويبقى عادل حجي من المثقفين القلائل الذين زرعوا الحياة في شاشة التلفزة المغربية بثقافته الموسوعية وحسه النقدي والجمالي الفريد. لكن في بلاد «مغني الحي فيها لا يطرب» يبقى الرجل أكبر من برنامج ثقافي يبث في منتصف الليل.