نيكولا ساركوزي.. بلدوزر يثير قلق العرب والمهاجرين

مرشح رئاسي قد يحرم ليلى المغربية من اللحاق بحبيبها في باريس

TT

يتساءل كثير من المسلمين والعرب في فرنسا اليوم، عن مصيرهم في حال وصل المرشح الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهورية. فقضية الاندماج ما تزال مشتعلة، وسؤال الهوية ملتهب هو الآخر، وشبان الضواحي من أبناء المهاجرين لم يخمد غضبهم بعد، وساركوزي بميله الكبير للجالية اليهودية وإسرائيل، وإعجابه الشديد بالنموذج الأميركي، يبدو لهم وكأنه سيسكب الزيت على النار. انها مخاوف مشروعة ولها ما يبررها، بماذا يفكر المسلمون في فرنسا اليوم، واي هواجس تنتابهم، امام طموح ساركوزي الذي يبدو وكأنه يتعارض وطموحاتهم في مواطنية سوية.

نيكولا ساركوزي يُخيف في فرنسا. والخوف صادر من غير موضع، يخيف معارضيه، ويخيف حتّى في ردهات وكواليس حزبه. يخيف لأنه لا أحد يستطيع اللحاق به، ولا التنبؤ بما ستكون عليه ضربته القادمة. اخترع نموذجا في السياسة لا ينبني على منطق سابق متفق عليه. كل الضربات والمواقف ممكنة شرط أن تدفع بالوزير إلى الواجهة، سواء كانت الميديا أو السياسة أو حتى في صحافة الإثارة، على الرغم من أنه اكتوى منها شخصيا، حينما أُبْرزَت للعلن صورة لزوجته مع رجل قيل بأنه عشيقها، واضطر الوزير أن يدعو نفسه إلى التلفاز، وهو يكاد يجهش بالبكاء، ليقول للفرنسيين بأنه واحدٌ منهم وبأن ما يصيبهم يصيبه هو أيضا. أصبح الرجل يُخيف لدرجة أن بعض خصومه تجرأ على اتهامه بأنه، في حال تربعه على حكم فرنسا، سيكون «كلب» الرئيس بوش المدلل وسيحطم كل تراث ديغول والاستقلالية الفرنسية، أو ما يسمى بـ«الاستثناء الفرنسي».

من المعروف، في كل الثقافات، أن حديثي العهد بالتجنس أو بالمعتقد، غالبا ما يكونون أكثر تحمسا لدولة التبني من المواطنين الأصليين، وهو ما سماه الكاتب الطاهر بن جلون مرة وهو يتحدث عن الشأن العربي بـ«عرب الخدمة». ومن هنا لم يستغرب الكثيرون قسوة ساركوزي مع المهاجرين الجدد وصرامة القوانين والعقبات التي يضعها أمام اندماجهم، إلى درجة أن الدكتور شوانزنبيرغ، الأخصائي الفرنسي الراحل في أمراض السرطان، عاب على ساركوزي في برنامج تلفزيوني خطابه القريب من العنصرية وذكّره بأبيه الهنغاري الذي وصل إلى فرنسا في سنوات الخمسينات.

تتحدث الرّكبان عن وحش سياسي فرنسي اسمه نيكولا ساركوزي، ليس فقط في فرنسا، وإنما في بقاع متعددة من العالَم، في شمال أفريقيا ومصر وفي دول آسيوية عديدة. الأسباب واضحة ومنها قوانينه الجديدة المثيرة للجدل حول الهجرة. هذه القوانين ـ التي لقيت تعاطفا واسعا من الفرنسيين، وخصوصا الذين اعتادوا التصويت على برامج الجبهة الوطنية العنصرية الكريهة ـ وضعت جبالا من المشاكل في وجه أي محاولة تفكير في لمّ شمل العائلات، بل حتى في مفهوم الاندماج الذي أسال الكثير من الحبر. أحد الرسامين الفرنسيين الظرفاء عقّب بالقول بأن ساركوزي لا يريد لأحد من هؤلاء المنحدرين من الهجرة أن يقع في عشق أحد في غير فرنسا، وإلاّ فإن موانع الوصال التي كان يُنْظَر إليها، في تراثنا العربي، بين ليلى وقيس على أنها صعبة لن تكون، مقارنة مع قوانين ساركوزي الإنسانية، سوى لعب أطفال.

يبدو نيكولا ساركوزي في المشهد السياسي والاجتماعي الحالي «بلدوزر» حقيقيا يُحطّم كلّ شيء يدور حوله ويخلخله. يُسائل كل شيء في طريقه، بل ويقدم قراءة عصرية فريدة (قراءة القرن الواحد والعشرين) لكتاب «الأمير» لماكيافيلي.

ما حال المسلمين لو وصل ساركوزي إلى السلطة؟

غير خاف أن الجالية العربية الإسلامية، في معظمها، تخشى وصول هذا المرشح المعلن لرئاسة الجمهورية. وغير خاف أيضا أن الجالية تعرف عن بكرة أبيها اسم هذا المرشح، ولا يمكنها سوى أن تلاحظ، منزوعة السلاح، تناقضات الوزير ورقم 2 في الحكومة ورئيس أكبر الأحزاب، والأخ لواحد من أكبر الفاعلين الاقتصاديين في فرنسا، حول كل المسائل التي تهمها. فهو، مثلا، في قضية الحجاب الإسلامي حرص دائما على التذكير بوجود تدخلات أجنبية تارة، وتحدث مرّات أخرى عن دور قامع للعائلات وضغوطات على البنات. لكن ساركوزي لم يتورع عن التوجه إلى الأزهر الشريف وطلب فتوى من شيخها تساعده على حلحلة الأمر مع ممثلي الجالية الذين استهجن معظمهم منع الحجاب في المدارس. حجّه إلى الأزهر اعتبره الكثيرون في فرنسا من شطحاته غير المفهومة، ولكن الانتهازية، وإذنْ الوصولية.

في قمة انتفاضة الضواحي، وأمام فشله الذريع في معالجته الأمنوية (التركيز على الأمن)، اتهم منظمات أجنبية (إسلاموية) بإذكاء النار وتشجيع الشباب على التمرد وإشعال الحرائق. ولكنه بعد توقف الاضطرابات أصرّ على البعد الأمني فقط، وهو ما جرّ عليه في هذه الأيام انتقادات لمحت إليها صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية ليوم الخميس 21 أكتوبر بعنوان «طريقة ساركوزي تتعرض لاعتداء في الضواحي»، خاصة بعد الاعتداء الوحشي الذي تعرض له شرطيان في نفس المنطقة التي اندلعت منها شرارة الاضطرابات، أي «لاسين سان دونيس». وهو أيضا ما دفع المسؤول الشيوعي هيرفي برامي في المنطقة للقول «إن منطقتنا (الساخنة) استخدمها ساركوزي حقلا لمناوراته السياسوية».

ساركوزي يعرف وجود عامل جديد في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وهو دخول التصويت العربي إلى الحلبة، ولو أنه غير مُنظَّم مثل الصوت اليهودي. لقد شبّ الجيل الثاني والثالث للهجرة عن الطوق. ومن هنا غازل ساركوزي المنظمات الإسلامية بطريقة ماكرة ليثبت للجالية الإسلامية بأنه المسؤول السياسي الفرنسي الجدّي الوحيد الذي لا يقبل بوجود الحساسيات الدينية في الأعياد الوطنية، وهو لا يجد الإسلام حاضرا وممثلا، مع أنه الديانة الثانية في فرنسا، ووعدها بفعل شيء ما لتغيير أو لتعديل قانون 1905 الذي يتحدث عن الفصل ما بين الديني والدنيوي، والذي لم يأخذ بعين الاعتبار الإسلام حينئذ. والتعديل المقترح يعني ضمن ما يعنيه تقديم الدولة الفرنسية مساعدات لتشييد دور للعبادة وترميم ما يحتاج ذلك من دون الالتجاء لأموال أجنبية (إسلامية) مشبوهة. ولكن لا شيء من كل هذا حدث، لأن الفرنسيين والطبقة السياسية الفرنسية رفضت مناوشاته، ولأن الصراعات السياسية تنخر كافة مكونات الإسلام السياسي الفرنسي.

ولكن موقف ساركوزي هنا فَضَحَتْهُ تصريحاته ومواقفه، هناك، إذ أن دفاعه عن حق وحرية التعبير فيما يخص الصور الكاريكاتورية المُسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم كشف اتجاهاته ومواقفه الحقيقية من الإسلام ومن الثقافة العربية الإسلامية. كما أن حضوره السريع والمتكرر إلى أماكن الاعتداءات التي يتعرض لها بعض اليهود في فرنسا وتصريحاته النارية في عزّ الحدث عن معاداة السامية، حتى قبل تصريح العدالة لموقفها، وفي المقابل عدم تكليف نفسه عناء التخفيف ومواساة الضحايا العرب المسلمين وأسرهم.. كل ذلك ساعد على إبراز صورة سلبية في عيون الجالية.

كم كانت دهشة الطبقة السياسية الفرنسية، وأيضا الجالية العربية الإسلامية، قوية حين خصّ دولة إسرائيل، من دون الدول العربية وأيضا من دون منطقة السلطة الوطنية الفلسطينية، بأول زيارة بعد انتخابه رئيسا لأكبر حزب يميني في فرنسا، وهو ما أكَّدَ مشروعية الشكوك بخصوص نوايا الرجل في قطع دابر ما سمي، يوما، بـ«السياسة العربية لفرنسا» أو للمواقف الديغولية الحيادية والمشرفة.

وقد تفطّن لمواقف ساركوزي معظم فناني ومثقفي الجالية في فرنسا، حيث شنّ الفنان الساخر جمال الدبوز هجوما ناريا عليه بخصوص نظراته التحقيرية والاتهامية لأبناء الضواحي، ولم يُخف استعداده لدعم مُرشحة اليسار الفرنسي سيغولين روايال.

البرنامج الشهير للدمى الذي يشاهده الكثير من الفرنسيين على شاشة القناة الرابعة «كنال بلوس»، لا يتورع عن تقديم شخصية ألعبان حقيقي، يعطي الانطباع على حنكته في السير على حبال متحركة، ولكن الكثيرين، أيضا، ما فتئوا يكتشفون قدرته على الجمع بين أشياء متناقضة ومتنافرة جدا. إن صُوَر طرد العائلات الأفريقية من أماكن سكنها وكذلك منع الأطفال من دخول المدارس الفرنسية، وطرد آبائهم وترحيلهم في طائرات تشارتر، مهينة، على الرغم من اكتشاف ساركوزي للإيمان وللدين المسيحي وتأليفه كتابا مع قسّ كاثوليكي، جرّ عليه انتقادا من العديد من رجال الدين المسيحيين الذين رأوا في تصرفاته ابتعادا عن تعاليم السيد المسيح. وقد وصل الأمر بالوزير إلى تنظيم سفر استفزازي إلى دول الساحل الأفريقي وإلى المغرب لشرح تصرفاته القاسية وتبريرها. لكنّ الاستقبال الشعبي في دول أفريقيا السوداء كان صاخبا، وطُلِبَ منه المغادرة، شأنه شأن أي عنصري، في حين كان استقبال المسؤولين المغاربة له وُدّيا (تبادل العناق) وهو ما أثار حفيظة الكثير من المغاربة، خصوصا أن ساركوزي استبق الزيارة بطرد طالب مغربي من فرنسا.

لا يبدو أن ثمة شيئا واضحا في سياساته تجاه المهاجرين أو المنحدرين من الهجرة. كل شيء يبدو للمراقبين وكأنه تجريبي. اقتبس من أميركا، وهي نموذجه الأسمى، (أَلَمْ يُصرّح منذ أسبوع بأنه ضدّ العداء الأولي لأميركا، وأضاف بأنه ما من ممثل فرنسي إلا ويصبو إلى الظهور في فيلم هوليودي) فكرة «التمييز الإيجابي»، فعيّن والياً من أصل عربي، ونادى بتوزيع بعض الحصص على المسلمين وعلى الأقليات، ولكن استقبال الفرنسيين عموما، والجالية العربية الإسلامية بصفة خاصة، كان فاترا، لأن مواقفه وحلوله فوقيّة، ولأنها لا تساعد على اندماج حقيقي بين كل مكونات الشعب الفرنسي. في عجلته، إذ أنه يبدو دائما مستعجلا، يراكم ساركوزي الأخطاء.. وليست إدانته لـ«حزب الله» اللبناني، في أوج حرب إسرائيل ضد لبنان، واتهامه له بالإرهاب (تماما مثلما فعل جوسبان يوما)، إلا ضريبة لِطُموح جارف لا يعرف البصيرة، يُضافُ إليها تعيين شخصية صهيونية مستشارا له في موضوع الهجرة. المعني بالأمر، أرنو كلارسفيلد وهو شخصية غريبة حرصت، بشكل «ميديوي»، كما يفعل ساركوزي نفسه، على أداء الخدمة العسكرية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح بأن إسرائيل يمكنها أن تُخرِجَ مستوطنيها من الضفة والقطاع لكن بشرط طرد عرب إسرائيل.

باختصار يجد المرءُ نفسه أمام توابل عن مرشّح فرنسي خطير لرئاسة الجمهورية الفرنسية (سنترحم طويلا على ميتران وشيراك!). يبقى ان استحقاق رئاسة الجمهورية الفرنسية، هذه المرة، لا يحمل الدفء والطمأنينة لمهاجري فرنسا بقدر ما يحمل لهم من مخاوف وجودية.