كنت أقبض من الشيخ تاج وإسماعيل صدقي باشا ومن فوق الطاولة

نقيب الصحافة اللبنانية الأسبق اسكندر الرياشي:

TT

منذ عام 1975، والخط البياني للكتاب اللبناني ينحدر لجهة التأليف كما النشر، ويعود ذلك الى عاملين: الحرب الأهلية التي بدأت في ذلك العام وامتدت لما يزيد على عشر سنوات، واختراع الكومبيوتر الذي تولى تقديم الوجبات الثقافية السريعة عبر شبكات الإنترنت.

كان الكاتب المبتدئ يطبع ألفي نسخة من روايته او ديوانه، فأصبح الكاتب المحترف والواسع الشهرة، لا يتجرأ على طباعه اكثر من الف نسخة من كل اصدار، وأحيانا خمسمائة، كي يضع على غلاف الخمسمائة الاخرى عبارة «طبعة ثانية». من هنا، سرّ غياب العديد من اسماء المؤلفين الراحلين، باستثناء قلة يحتل رأس لائحتها القصيرة جبران والريحاني وسعيد تقي الدين ونزار قباني.

فجأة، تعيد دار «اطلس» الدمشقية نشر كتابين لنقيب الصحافة اللبنانية الاسبق اسكندر الرياشي «1890 ـ 1962» وهما «قبل وبعد» و«رؤساء لبنان» رغم ان مؤلفهما يكتب بأسلوب أقرب للعامية منه الى الفصحى، ولا ينسجم فكره السياسي «اللبناني» مع فكر دمشق «العروبي». فما هو سر إعادة اصدار كتابين لم يسمع بعنوانيهما القراء الشباب ـ اذا بقي شبان يقرأون ـ وبالكاد يتذكرهما القراء المخضرمون؟

لن أجيب عن السؤال بعرض مضمون الكتابين، وانما بإقامة حفلة تعارف بمؤلفهما الذي تهم سيرته الصحافية والشخصية القراء أكثر من أي كاتب، نظرا لما تحفل به من صراحة وطرافة وغرابة قد لا يكون لها شبيه في وطن الارز.

ولد الرياشي في مصيف الخنشارة، الواقع على بعد عشرة كيلومترات شمال شرقي بيروت. ومثل معظم أبناء العائلات المسيحية اللبنانية الذين يعيدون أصولهم الى خارج جغرافية لبنان وحتى بلاد الشام، فقد قال الرياشي في 17 سبتمبر (ايلول) 1948 لجريدة «أخبار اليوم» المصرية: «أنا لو رجعت الى أصلي لكنت اليوم رئيس وزارة في لبنان مكان رياض الصلح او شيخا من الازهر. اذ انه لم يمض على آل الرياشي مائة وخمسون سنة عندما كانوا عربا مسلمين اقحاحا ينزلون في ربوعهم بمنطقة الصباح في اليمن. وكان والدي يعود الى أصله من وقت لآخر، لذلك سماني: «الحسن»، وكنت مليح الوجه، وظللت هكذا حتى الاربعين. وبعد الاسم المسلم الجميل سموني الاسكندر تيمنا باسم الاسكندر ذي القرنين. وقد أكون حملت كل شيء في الحياة ما عدا القرون».

تعلم في «الكلية الشرقية» في مدينة زحلة التي كان يرأسها الخوري بولس الكفوري صديق جبران والريحاني، والمتأثر مثلهما بفكر الدكتور شبلي شميل الاشتراكي الدارويني، مما أدى الى طرده من سلك الكهنوت.

اصدر في عام 1910 في زحلة باكورة دورياته بعنوان «البردوني» تيمنا بالنهر الذي يخترق المدينة، واتخذ لها شعارا الابيات التالية:

هذي الصحيفة مثلما بردوننا

فيه مياه عذبة وصخور

فإذا رأت عدلا تسيل لطافة

وإذا رأت ظلما عليه تثور

في عام 1911 سافر الى الولايات المتحدة وأصدر جريدة «الوطن الجديد» في نيويورك،

وعاد الى لبنان «طفرانا» ربما لأنه تعاطى الصحافة، ولم يحمل «الكشة» أسوة بالمغتربين الذين أثروا. وبالطبع هو سافر من نيويورك الى بيروت بحرا، وقد جعله «الإفلاس ينزوي الى ركن في الباخرة لا يستطيع فيه ان يتمدد» على حد تعبيره.

ولانه كان يتقن الانجليزية والفرنسية، فقد أصبح مستشارا لحاكم البقاع الفرنسي في عام 1920، و«عاملا سياسيا للانجليز من جهة وللفرنسيين من جهة أخرى». ومصطلح العامل يرادف رجل المخابرات.

وعندما قررت الولايات المتحدة إيفاد بعثة «كنغ ـ كراين» لاستفتاء اللبنانيين وسائر سكان بلاد الشام حول مدى قبولهم للانتدابين البريطاني والفرنسي، كلفت المفوضية الفرنسية الرياشي التوجه الى زعماء البقاع الوطنيين من أجل إقناعهم بقبول الانتداب. فقبض من صندوق المفوضية 18000 ليرة مصرية، باعتبار أن المال افضل حجة لإقناعهم. وعند وصوله الى منطقة ضهر البيدر على مشارف سهل البقاع، أخذ قسما من المبلغ لأنه يحسب نفسه «زعيما ومحترما». وهو أخذ حصة ابراهيم بك حيدر، بعد ان وجده مواليا لفرنسا. واكتفى بشرب القهوة لدى معظم الزعماء الذين زارهم ووجدهم مغيّرين موقفهم أسوة بحيدر. وهكذا، عاد صاحبنا من رحلته البقاعية قابضاً «15 ألف ليرة مصرية من أصل 18 الفاً. وكانت الليرة المصرية تساوي في ذلك الحين، ليرة انجليزية ذهباً و15 قرشاً»، على حد قوله في مقال «أكبر قبضة قبضتها في حياتي».

وبالمناسبة، فهذا المقال نشره الرياشي في مجلة «الصياد» بناء لطلب سعيد فريحة الذي كان يساهم في تحرير جريدة «الصحافي التائه». ولم يبد الرياشي غضبه من الصحافي المصري محمد التابعي الذي اتهم الصحافي الظريف بقبض عشرة جنيهات مصرية كل شهر من اسماعيل صدقي باشا، واكتفى بالقول: «ما قاله التابعي صحيحاً، ولكن كيف عرف ذلك». وختم الرياشي مقاله بالتساؤل التالي: «لماذا طلب صاحب مجلة الصياد، تلميذنا الطاهر، ان أحدثه عن مقبوضاتي»؟ وأجاب: «لعله اعتقد أنه سيأخذ عني دروساً جديدة. وهو كما نعلم أصبح استاذاً في هذا الفن، وأصبح أستاذه تلميذاً». الصياد «العدد 8» 2 شباط 1944.

وعلى ذكر «الصحافي التائه» التي أسسها الرياشي عام 1922 وأصدرها في زحلة، فإنه نشر في أعداد سنواتها الاولى سلسلة من المقالات والأخبار لصالح الشيخ تاج رئيس الجمهورية السورية في مطلع الانتداب الفرنسي. ولما زاره الرياشي في القصر، شكره الشيخ التاج وسأله عن كيفية مكافأته له، فأجابه على مسمع بعض زواره ووزرائه بأن المكافآت متنوعة، ولعل افضلها المكافأة المالية السخية طبعاً!

وخصص الرياشي مساحة في جريدته لطلبات الزواج. فتلقى من الآنسة بدر ك. الرسالة التالية: «انا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري. متوسطة الحال. لا جميلة ولا غنية... اريد رفيقاً لحياتي حائزاً على الشروط التالية: يكون في الثلاثين من عمره، له كل الصفات الحسنة. يجب ان يترك عمله عند المساء ليأتي لبيته. وان يكون احسن مني حالاً. يجب ان يكون قلبه نقياً». نشر الرياشي الرسالة في «الصحافي التائه» بتاريخ 15 نوفمبر(تشرين الثاني) 1922، وذيّلها بالتعليق التالي: «انني لو وجدت شاباً له الصفات التي تطلبينها، لذهبت حالاً وأنا حامل كيسَيْ ملح لتحت قوس القزح، ولصرت فتاة جميلة، ولأخذته انا ولم اتركه لك ولا لغيرك».

ودشن الرياشي في جريدته الكتابات الغرامية في الصحافة العربية. ولما كانت «الصحافي التائه» تصدر في بيئة محافظة، فقد استدعاه مطران الروم الكاثوليك، وأمره بالكف عن نشر المقالات المخلة بالآداب. ولكن الرياشي ضاعف من عيار الإثارة في تلك المقالات، مما دعا المطران الى دعوة المؤمنين في عظة الاحد لمقاطعة الجريدة. كانت الكنيسة غاصة بأهالي زحلة، وقلة منهم كانت تتابع «الصحافي التائه». ولكن الجميع، بعد العظة التحذيرية، خرجوا من الكنيسة، وتوجهوا الى المكتبات ودكاكين السمانة لشراء الجريدة وقراءة الممنوع المرغوب فيها. ولما كان الاقبال كثيفاً على «الصحافي التائه»، فقد اضطر صاحبها الى إصدار طبعة ثانية، ولم ينسَ ان يطيّر برقية شكر الى راعي الطائفة.

ولم يكن الرياشي أقل إثارة وصراحة في مقالاته السياسية. كان زملاؤه وما يزالون يتجنبون تبادل الانتقادات احتراماً لبروتوكول الزمالة. ولكنه، باستمرار، كان يسخر من زملائه الذين يتمترسون في مواقع سياسية مناهضة. وعلى سبيل المثال، فقد صب سخريته على الزميلين الفرنكوفونيين جورج نقاش وجبرائيل خباز، صاحبي جريدة «الاوريان الفرنسية» بسبب معارضتهما للشيخ بشارة الخوري الذي اصبح اول رئيس جمهورية للبنان المستقل. وتحت عنوان «كذابان خلاطان مع انهما نابغتان وعبقريان» استهل الرياشي مقاله المنشور في 16 ديسمبر (كانون الاول) 1929: «اذا كان في كل مرة تأكل فيها الاوريان هوا، علينا ان نجيب، فقد نقضي العمر بالجواب، لأن الاوريان تأكل هوا – كثيرا – وغالباً». وختم بإبداء احترامه للرجلين رغم كل شيء لأن «الرجل لا يحترم فقط الذين افضل منه من الرجال، بل يحترم ايضاً الذين أرذل منه».

ورغم عدم استثنائه لزملائه في مقالاته الساخرة، فقد انتخب نقيباً للصحافة عام 1947، وجُدد انتخابه للمرة الثانية. ومع ذلك، فلم ينج النقباء السبعة الذين سبقوه من لسان قلمه. كان نقيبا للصحافة حين جزم ان «بين السبعة نقباء سلفائي كان خمسة لا يعرفون الكتابة، او بالأحرى اذا كتبوا فيكتبون بجهل وبفقر كاملين».