من فم بابوسا «الدمية» إلى سَمْع ميرغا «غجري البرلمان»

كاتبة أحبتهم وتتبعت سيرتهم الأسطورية والواقعية

TT

آه، يارب، أين سأذهب؟

ماذا يمكنني أن أفعل؟

أين يمكنني أن أجد

أساطير وأغاني؟!

إنني لا أذهب إلى الغابة

ولا التقي بأية أنهار.. آه أيتها الغابة، يا أبي

يا أبي الداكن

زمن الغجر المرتحلين

ولّى منذ أمد بعيد، لكنني أراهم

إنهم مشعُّون .. أقوياء

وواضحون كالماء

يمكنك أن تسمع الماء

يرتحل عندما يريد أن يتكلم

لكن كم هو مسكين، إنه لا يتكلم..

.. لا ينظر الماء الى الوراء

إنه يفرّ، يجري أبعد فأبعد

إلى حيث لا تراه العيون .. الماء الذي يرتحل

هذا بعض ما كتبته (برونسلافا واجس) التي اشتهرت باسمها الغجري (بابوسا) أي «الدمية»، وهي من أعظم شاعرات الغجر ومغنياتهم. عاشت طوال حياتها في (بولندا). إنها الغجرية اللاغجرية، المخلصة لغجريتها، ولكن أيضا لمدنيتها، فكانت ضحية منبوذة من أهلها الغجر، ومن مواطنيها الذين لا يعترفون بمواطنتها. لم يكن هناك الا القليل النادر ممن يقدرون مشاعرها من أهلها الغجر أو من مواطنيها البولون، وأهمهم الشاعر البولندي (جيرزي فيكوسكي) الذي رآها تغني فأدرك على الفور عمق موهبتها، وبدأ بجمع وترجمة القصص التي نسختها بدأب ودونتها باللغة الغجرية، بأحرف بولندية. وعليه فقد اعتبرها الغجر متعاونة مع من هم من «غير الغجر»، ولذا فهي ترثي حالها قائلة:

لا أحد يفهمني

فقط النهر والغابة

ذاك الذي أتحدث عنه

ولّى، ولّى برمته

وكل شيء ولّى معه .. وسنوات الشباب تلك

لقد أساء الطرفان فهمها، واستُغِلَّتْ من قبل الطرفين، شعبها الغجري، والذين هم من «غير الغجر».. لقد أرادت استرجاع أشعارها ـ أفكارها، وعدم نشرها، كي لا يساء فهمها من قبل الطرفين، فمضت إلى (اتحاد الكتاب البولون) ولكن لم تجد أحداً يصغي إليها، وما من أحد يفهمها، فعادت إلى بيتها وحرقت كل أعمالها، وكتبتْ إلى (فيكوسكي) الذي سينشر الأشعار.. كتبت إليه تقول:

«إذا نشرت هذه القصائد فسوف يسلخ لحمي عن عظمي، وسيصير شعبي عاريا أمام العناصر. ولكن من يعلم، ربما ينمو لي جلد آخر، جلد ربما يكون أكثر جمالا». نُشِرت قصائدها وتمَّ استدعاؤها من قبل أعلى السلطات بين غجر بولندا، ووقفت أمام الشيخ (Baro shero) الرأس الكبير كما يدعى، وبعد مداولات مقتضبة اعتبرت (بابوسا) غير نظيفة (Mahrime) وأقصيتْ عن الجماعة، وأمضتْ على أثر ذلك ثمانية شهور في مشفى للأمراض النفسية، وعاشت في عزلة تامة لمدة 34 عاما، حتى وفاتها في عام 1987، وقد اعتزلت الجميع بمن فيهم (فيكوسكي) الذي تبناها منذ البداية، حتى نشر قصائدها التي كانت طامتها الكبرى. ةقصة (بابوسا) هذه وجدناها فقرة يمكن أن تعطي فكرة عن مسار كتاب (سيرة الغجر) للكاتبة (إيزابيل فونسيكا)، وهو من أهم وأخطر الكتب التي عالجت قضية الغجر على نحو من الدقة والمسؤولية العالية والموضوعية النادرة، فهي ترثيهم حيث يستوجب الرثاء، وتدينهم حيث لا بد من الإدانة، ولكن غرماءهم كانوا دائماً متسلطين طغاة في كل البلدان التي وجد فيها الغجر، مثل بلغاريا، رومانيا، يوغسلافيا، ألبانيا، بولونيا، ألمانيا.. إلخ، بعد قدومهم المظنون بأنه من الهند.

أسطورة الغجر

ليس للغجر وطن وهم لا يريدون وطنا، ولا هوية، ومفردات لغتهم الخاصة لا تتعدى المائة مفردة، لكن لكل مفردة أكثر من استعمال. تقول المؤلفة، قال لي ناشط غجري: «لن تتعلمي لغتنا أبداً، لأنَّ لكل كلمة تدونينها في دفترك الصغير مرادفاً آخر نستخدمه، ولن يكون بمقدورك معرفته، وربما تتعلمين هذه الكلمات، لكنك لن تصلي إلى معرفة استخدامها، أو استخدام ظلال المعاني التي تحملها في طياتها.. يجب أن تكوني قد ولدتِ فتاة غجرية».

إنهم لا يريدون الاستقرار، ولا يحبذون الحدود، بل إن اجتياز الحدود هو متعتهم الكبرى. عندهم الأمانة، وعندهم السرقة، أي أن عندهم «الشطارة».. إنهم لا يفخرون بما يفخر به عموم الناس، بل يفخرون بأشياء تخصهم وحدهم!

قابيل.. والمسمار الرابع!

ارتبطت مهنة (الحدّاد) بالغجري، لأن كلمة (قابيل) تعني «الحداد»، واستناداً إلى (سفر التكوين 12:4) فإنه «عندما، أنت، تحرث الأرض، فإنها لن تمنحك، بعد ذلك، قوتها، وستكون طريداً ومتسكعاً في العالم». هنا ينبغي أن تمضي مع قصة الحداد والحدادين الثلاثة وقصة المسمار الرابع لصلب السيد المسيح. حين قرر الرومان صلب (يوشع بن مريم) أرسلوا جنديين اثنين لإحضار أربعة مسامير متينة، ومضى الجنديان لصنع المسامير الأربعة.. كان الحداد الأول عجوزاً يهودياً سبق وأن رأى الوجه الشاحب الطويل، والعينين الفاتحتين ليوشع بن مريم.. هذا الحداد قال «لن أصهر مسامير يصلب بها يوشع بن مريم».. انزعج الجنديان وأضرما النار في لحيته.. كذلك كان الحال مع الحداد اليهودي الثاني وكذلك الثالث. عند الحداد الرابع، وهو غجري، اكتفى الجنديان بثلاثة مسامير وهربا بعدما سمعا اصوات الحدادين الثلاثة المقتولين وهم يتوسلون الغجري كي لا يصنع المسامير. غير ان الغجري واصل العمل على صنع المسمار الرابع الذي أبى أن يبرد، وظل ساخنا، مهما سكب عليه من الماء. وظل ذلك المسمار يظهر في خيام احفاد الرجل الذي صك المسامير لصلب يوشع بن مريم. وعندما يظهر المسمار، يهرب الغجر، وهذا هو السبب الذي يجعلهم ينتقلون من مكان الى آخر.

ولهذا السبب صلب يوشع بن مريم بثلاثة مسامير فقط، حيث ربطت قدماه معا يخترقها مسمار واحد.. اما المسمار الرابع فما يزال يضرب الارض من اقصاها الى اقصاها.. وبالتالي فإن الغجري ـ الغجر، صانع ـ صناع ذلك المسمار يظلون يضربون في الارض من اقصاها الى اقصادها، غير ان ذلك الأمر لم يعد في حوزة تلك الاسطورة، اذ العالم يتغير هو الآخر من اقصاه الى اقصاه!

هناك حكايات اخرى اقرب الى الواقع صيغت حول الغجر، غير اسطورة المسمار الرابع، منها ما ورد في (الشاهنامة) للشاعر الفارسي (الفردوسي)، حين اشار الى رسالة الشاه (بهرام غور) إلى والد زوجته (شنجيل) في بلاد الهند، يطلب منه ارسال عشرة آلاف من اللوريين نساء ورجالا ممن يجيدون العزف على العود، من أجل ان يرفه عن الفقراء.. ولقد اعطى لكل واحد منهم حمارا وثورا، وللمجموعة كلها ألف حمار محملة بالحبوب على أمل ان يستقروا، لكن الذي حصل هو ان هؤلاء اللوريين اكلوا الحبوب والثيران وغادروا وحين عادوا شاحبين، طردهم الشاه، وهم الى الآن ما يزالون يتسكعون في البلدان، يتسولون وينامون مع الذئاب.. دائما على الطريق، ينهبون ويسرقون ليل نهار!

لقد كرست ايزابيل شطرا واسعا من حياتها لهذا الكتاب، وتتبعت تفصيلات ما كان لغيرها ان يتتبعها لولا اصرارها وتبنيها لهذه القضية التي لم يعن بها كتاب سابق على هذا النحو من الحيوية والشعور العالي بالمسؤولية الانسانية والثقافية، فبعد ان افردت المؤلفة شطرا واسعا (عشرات الصفحات) من كتابها لصالح التاريخ الواقعي ـ الاسطوري ـ الخرافي للغجر، عمدت الى استكمال هذا البحث الحيوي بوقائع ومعلومات ليس من السهولة على فرد الالمام بها، ثم تسطيرها في كتاب واصداره على رؤوس الاشهاد، ذلك انه ينطوي على معلومات خطيرة، سواء في ما يخص الغجر انفسهم بشراً وزعماء لهم مصالح خاصة وغامضة، او اعداء الغجر، سواء اكانوا من بسطاء الناس «غير الغجر» ام حكومات البلدان التي امعنت في محاربة الغجر وحاولت تدجينهم ما داموا في قبضتها. ومثلما ابتدأت الكاتبة وابتدأنا سطورنا هذه بحكاية (بابوسا) تختم «ايزابيل فونسيكا» كتابها هذا باسم (بابوسا) اذ تقول: «ومثلما آلت إليه حال بابوسا، التي الهمت ميرغا «اندريج ميرغا الذي كانت والدته قارئة كف أمية».. الهمته كثيرا.. كان القادة الجدد حقا «غجرا محترفين»، مثلما اتهموا. وكانوا ايضا الأمل الوحيد لملايين الغجر الذين لم يسمعوا بهم: أولئك الذين يعيشون في البلدات المظلمة وفي الحارات والأحياء المسمومة عبر اوروبا الشرقية، بلا اسماء من قبيل «خذها او اتركها» او «احببت ذلك أم لا تحب» او «ارض لا يسكنها بشر» او كمبوديا، وبنغلاديش!