مثقفون جزائريون غاضبون من «مؤرخي» البرلمان الفرنسي: إن لم تستح «فشرّع» بما شئت

TT

بدا وكأن مصادقة مجلس النواب الفرنسي على قرار يجرم كل من ينكر المذبحة التركية في حق الأرمن، قد أصاب المثقفين الجزائريين بصدمة، وأعادهم أكثر من نصف قرن إلى الوراء. فماتزال فرنسا ترفض الاعتذار عن مجازرها في الجزائر، وفي الوقت نفسه تحاسب دولة أخرى مسلمة، هي تركيا على تاريخها، لا من خلال إعادة كتابة التاريخ على ايدي مؤرخين محترفين، يحاولون البحث عن الحقيقة، وإنما من خلال مجلس النواب، الذي يستند إلى خلفيات سياسية، لا إلى معايير علمية وبحثية، فأي غضب يعتمل في نفوس المثقفين الجزائريين، وكيف يقرأون ما يحدث؟

نواب «الجمعية الوطنية الفرنسية»، مغرمون جدا بكتابة التاريخ نيابة عن المؤرخين أنفسهم. ومن مفارقات التاريخ، أنه في يوم واحد فقط، هو الخميس 12 أكتوبر الماضي، حدثت ثلاثة أمور اختلط فيها التاريخ بالسياسة وحتى بالأدب والسينما، في نقطة واحدة. تقلبت الكثير من المواجع لدى بعض الشعوب، ومنها الشعب الجزائري الذي وجد نفسه طرفا في قضية لها ارتباط بجائزة نوبل هذه السنة. ولئن حرمت منها الكاتبة الفرانكفونية الجزائرية آسيا جبار، مثلما توقع البعض منذ سنوات، إلا أن اعلان الفوز هذه السنة وجد فيه البعض ارتباطا بتاريخ الجزائر الحديث. ففي الثاني عشر من أكتوبر الماضي، صادقت «الجمعية الوطنية الفرنسية» على قانون يجرم كل من ينكر المذبحة التركية في حق شعب الأرمن 1915، وفي اليوم نفسه فاز الروائي التركي أورهان باموك، بجائزة نوبل للآداب. وإن كان باموك أدبيا يستحقها، فلا يمكن نسيان، ان اسمه ارتبط بقضية لها علاقة بتلك المذابح، وهُدد قبل ذلك بدخول السجن ثلاث سنوات، بتهمة الإساءة للقومية التركية بعد تأكيده على تلك المذبحة المختلف في أمرها. وفي اليوم نفسه، توفي المخرج الإيطالي الشهير جيلي مونتيكورفو، صاحب فيلم «معركة الجزائر» الذي دفع فرنسا إلى الانسحاب من مهرجان البندقية سنة 1966 أثناء عرضه، ومنعته السلطات الفرنسية عشر سنوات كاملة، لأنه يدين جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لكن الراحل إدوارد سعيد اعتبره أعظم فيلم سياسي على الإطلاق.

ولأن البرلمان الفرنسي نفسه أصدر في 23 فبراير (شباط)، من السنة الماضية قانونا يضفي القداسة على الحقبة الاستعمارية في الجزائر، فإن الجزائر طرف كبير في هذه المتاهة التاريخية الثقافية، وفيما يلي يتكلم عدد من المثقفين الجزائريين لـ«الشرق الأوسط» عن موقفهم من هذه المفارقة.

الدكتور أمين الزاوي، الروائي الذي يكتب بالعربية والفرنسية والمدير الحالي للمكتبة الوطنية الجزائرية، استغرب دخول أعضاء البرلمان الفرنسي في هذه القضية الشائكة التي تخص المؤرخين، ثم أضاف: «الأمور التاريخية تترك للمؤرخين، وما صدر سابقا حول تبرير الاستعمار (قانون 23 فبراير الذي يمجد الاستعمار الفرنسي للجزائر) هو إعادة الاعتبار لمجرمي الحرب، وأعتقد أنها من سلوكات البرلمان الفرنسي التي تعبر عن نزعة سياسوية». ويقول الزاوي: «خارج مهمة البرلمان كهيئة سياسية، يجب أن نسترشد ونستأنس بآراء الباحثين الفرنسيين والعالميين الذين درسوا مناطق التوتر الكبرى، كحرب الجزائر وحرب الأتراك ضد الأرمن أو إسرائيل ضد الفلسطينيين. فلو كانت للبرلمانيين الفرنسيين الشجاعة الحقيقية لأدانوا اسرائيل كدولة تبيد الشعب الفلسطيني، وقد أقصته من الوجود الجغرافي والديموغرافي، لكنهم يأخذون الأشياء التي هي في الذاكرة، ويحاولون أن يخلقوا منها جعجعة سياسية على طريقة عروض الموضة الفرنسية».

ومن جهته يعتبر عميد الصحافيين الجزائريين، الكاتب الرحالة الطاهر بن عيشة أن نظام الخلافة العثمانية كان قاسيا على الأتراك أنفسهم، قبل غيرهم من الشعوب. فلا يمكن أن نأخذ الشيء مبتسرا عن إطاره التاريخي، ويقول: «من الطبيعي أن تحدث تلك المجازر في نظام كالنظام التركي، لكن الأغرب أن يحدث ما هو أسوأ في نظام كالنظام الفرنسي أيام الاحتلال، فيه برلمان ويمين ويسار. وقد حدثت مجازر سطيف في 8 مايو 1945 وراح ضحيتها 45 ألف جزائري، وكان أحد الطيارين المسؤولين مناضلاً شيوعياً. وتاريخ فرنسا في الجزائر هو سلسلة من المجازر المتواصلة».

أما الكاتب والناقد المسرحي أحسن تليلاني، فقد قال في هذا الصدد: «هذا الموقف الفرنسي مشبوه، ويبرز بوضوح أن السياسة الفرنسية تكيل بمكيالين. ففي الوقت الذي تحاول فيه الظهور بمظهر الامة المتحضرة المتعاطفة مع الارمن، نجد تاريخها حافلا بالدموية والجريمة والمجازر التي اقترفتها في الجزائر، ومحاولتها التستر على هذه الجرائم بإصدارها لقانون تمجيد الاستعمار. وكمثقف أعتقد أن هناك تناقضا صارخا بين فرنسا السلطة وفرنسا الميتروبول».

ويؤكد الشاعر والمذيع عبد الرزاق بوكبة أنه لم يندهش للأمر «لأن منطق الاستعمار أصلا قائم على التناقض، بل أن فرنسا لم تكن في مستوى ثورتها العظيمة ومبادئها الكبرى بانخراطها في موجة الاستعمار، واضطهادها لشعوب كثيرة، وطمسها لثقافات عديدة فهي مسؤولة اليوم عن تشويه «أعماق» كثير من الأمم والشعوب، وعوض أن تستغل التراكم الحاصل في مسيرتها التاريخية، وتحاول مراجعة ذاتها، وتقديم ما يجب من الاعتذار لهذه الامم والشعوب، راحت تصطاد في بركة التاريخ التي كانت سباقة إلى حفرها»، ثم يضيف عبد الرزاق بوكبة قائلا: «لست أدافع عن تركيا أو أبخس الارمن حقهم، ولكني ككاتب، وكإنسان قبل كل شيء، أرفض التناقض وأدعو إلى الانسجام».

أما القاص يوسف بوذن، فقد أكد في هذا السياق أن النظام الفرنسي نظام كهنوتي، يصر على عصمة تاريخية ومعرفية، قائلا: ان ذلك هو من نتائج «الحداثة الامبريالية» التي تدير الأرض، ويضيف في السياق نفسه: «الآخر في الحداثة السياسية تابع بالفطرة، ليس من حقه ان يطمح إلى الاستقلال والريادة»، ثم يؤكد لـ«الشرق الأوسط»: «لم تؤسس فرنسا للعبودية والتبعية فقط، ولكنها أحالت قضايا الشعوب التي تحتكرها إلى ولاءاتها القديمة والدول التي تقع في مدارها ستكون آخر الدول التي تنجز مشروعها الوطني (الديمقراطية). فرنسا في راوندا، وساحل العاج، والكونغو، ولبنان، تتعامل مع الدم كما تعمل شركات النفط مع البترول. ضخ الدم لإيقاف حلم التحرر، والبرلمان الفرنسي لم يخن تلك العهود، تركيا ليست أوروبية بثقافتها وأحاسيسها وبقبلتها، ولن تقبل في هذا السياق، ارتكبت مجازر الأرمن أو لم ترتكبها، فانتماؤها الإسلامي هو خطيئتها الأصلية التي لا تغتفر، ويختم القاص بودن قائلا: «فرنسا صديقة العرب... يا لها من مهزلة».

يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهناك مقولة أخرى في هذا السياق منسوبة إلى السياسي البريطاني الشهير وينستون تشرشل تقول: «سيبرر التاريخ ذمتي لأني سأكون أنا كاتبه». وربما من هذا المنطق أغرم نواب الجمعية الوطنية الفرنسية، بكتابة التاريخ بالطريقة التي يشاؤون، رغم أنف التاريخ والمؤرخين، والنتيجة هي المزيد من المهازل والاحتقار للشعوب الأخرى.