شخصيات وعلاقات ملتبسة لنساء يسكن حبال الذاكرة

«نفوس قوية» لراوول رويز يختتم مهرجان كان السينمائي

TT

تنفس الصحافيون صباح امس (الاحد) الصعداء، مع مشارفة المهرجان على الانتهاء ومع برمجة عدد من الافلام التي سبق عرضها في اليوم الاخير، كي يتمكن من فاته شيء مشاهدته قبل حفل الختام الذي ازف موعده.

وقد راح الذين تابعوا المهرجان من أوله يتنبّأون بالأفلام التي ستكون أوفر حظا للفوز بجوائز المهرجان وكل يرجح فيلما يراه جديرا بالسعفة، وبتقدير لجنة التحكيم.. افضل سيناريو وافضل إخراج والممثل الذي أدى افضل دور... الآراء تعددت وكذلك التكهنات بانتظار النتيجة التي أعقبها عرض فيلم الختام «النفوس القوية» الذي سنتناوله اليوم بالإضافة الى فيلم ختام مسابقة «نظرة خاصة».

اختتم راوول رويز عبر فيلمه «النفوس القوية» مهرجان كان السينمائي الرابع والخمسين بالتزامن مع خروج الفيلم في الصالات الفرنسية وهو فيلم مقتبس عن رواية الكاتب الفرنسي جان جيونو التي تحمل نفس العنوان، والتي كتبها اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية راغبا من خلالها في الرد على كل من اتهمه زورا بالتعامل مع الألمان خلال الحرب.

أراد جيونو من خلال روايته إظهار الوجوه المتعددة للحقيقة، الحقيقة التي لا يمكن أن توجد إلا بشكل ذاتي، خاص، والخاضعة لتقلبات الذاكرة وانحرافاتها الإرادية او اللاإرادية، والتابعة لشهادات شهود قد تتناقض أو النابعة من تعقيد شخصية ما. ولم يكتب رويز بنفسه السيناريو الذي هو عبارة عن تساؤل يطرح حول مفهوم الحقيقة، ويكتسي صيغة روائية كلاسيكية بامتياز. وقد قام باقتباس رواية «نفوس قوية» وكتابة السيناريو والحوارات ثلاثة أشخاص هم الكسندر استريك، ميتشل هوبر وآلان مجاني دانغامبير.

وتدور أحداث القصة في الريف الفرنسي عام خمسة وأربعين، حيث تجتمع ثلاث نسوة وتيريز رابعتهم، في سهرة حول جسد ميت تسبق ليلة الدفن. تروي تيريز، الأكبر سنا بين الحاضرات والتي «تبدو نضرة كوردة» قصة حياتها حيث كانت تعيش في الريف مع خطيبها وتكتشف أن لها قدرة وتأثيرا على الآخرين فتبدأ بممارسة هذا التأثير. حقيقة الأحداث المروية على لسان النسوة تدور في العام الف وثمانمائة واثنين وثمانين حين كانت تيريز (تؤدي الدور ليتيسيا كاستا) في الثانية والعشرين من عمرها، واختارت التمرد على الريف فهربت مع خطيبها فيرمان الذي تنجب منه ولدا لتستقر في منطقة شاتيللون القريبة من باريس، هناك تتعرف على السيدة نيمانس، البورجوازية الأكثر كرما والأكثر أناقة وسحرا في المدينة. تنشأ علاقة قوية جدا بين نفسيهما القويتين وتنمو، لكن فيرمان الزوج الطامع، والعامل الذي يحسب كل شيء، يشك بعلاقة قامت بين زوج نيمانس وزوجته، يتدخل في العلاقة ويحول مصير الأشياء فيسلب من الزوجين بإرادتهما كل ما يملكانه.

وقع الحكاية يتقطع مع ملاحظات النسوة اللواتي يتقدم بهن الليل وهن مجتمعات، ومع تقدم الوقت نطلع على جوانب أخرى من سيرة تلك الفلاحة الشابة الجميلة جدا والتي تدرك باكرا أنها تستطيع تغيير العالم من حولها لتخطط لمستقبلها كما يحلو لها.

وتمتلك كل امرأة من النسوة حكايتها الخاصة عن تيريز وشخصيتها القوية والخواص التي تتمتع بها فتجعلها غامضة ملتبسة عصية على الالتقاط والفهم بالنسبة لكثيرين وحتى بالنسبة لزوجها، الذي يشك في كونه يعرف زوجته على نحو أكيد.

شيئا فشيئا تتكشف الرواية مروية على لسان كل منهن، ويطالبن تيريز من حين لآخر بايضاحات، تظل قاصرة عن تزويد المشاهد بالحقيقة الشافية عن شخصية تلك المرأة، الحقيقة التي لا يعرفها أحد، والتي تظل بمثابة لغز يوفر الفيلم للمشاهد مفتاح حله عبر علامات ومواقف قد تظل في تناقض مع مواقف أخرى صدرت عن نفس الشخص. تظل تيريز شخصية روائية بامتياز وتبدو الأبعاد المتعددة لشخصيتها محاطة بالظلال. وإذا كانت النسوة يثرن تلك الجوانب الغامضة في حياة تلك المرأة، فإنهن لا يكشفن عن تلك الجوانب، ويكدن يجعلن القصة اكثر تعقيدا لولا تلك الإشارات التي يسقط القارئ في لعبتها بعد بداية صعبة على التلقي.

يتقطع القص بين النساء الجالسات يتحدثن على مدى ساعتين يستغرقها الفيلم، بين الحاضر حيث هم، وبين ماضي الأحداث المثارة فيما يعكس علاقة المخرج بالزمن وكيفية علاجه في الصورة. حين تجتمع النسوة في السهرة فان كل واحدة منهن تروي حكايتها وما تعرفه عن تيريز، وكل رواية تبدو مختلفة عن سابقتها وخاضعة لذاتية الشخص الذي يرويها.

إنها النظرة التي يلقيها الحاضر على الماضي، يصورها المخرج في عوالم اقرب إلى ضباب النسيان، تعيد تشكيل أشخاص ومواقف، علاقات وطبائع، تموت لولا استحضار البشر لها. والاستحضار هنا يتم بحضور جسد ميت.

والمخرج راوول رويز يولي زمن القص اهتماما خاصا في أفلامه، والزمن الماضي هنا يولد من الحديث ويحمل طابع التذكر. وكان رويز قدم قبل سنتين في مهرجان كان فيلمه «البحث عن الزمن الضائع» المأخوذ عن آلان بروست والذي يضع، بشكل حتمي، عنصر الوقت في مقدمة اهتمامات العمل الإخراجي لراوول رويز.

تبدو تيريز متعالية غير قادرة على مبادلة الناس عواطفهم، رغم حديثها لنفسها بأنها لا تتعلق بالمال وإنما بالعواطف، وهي تطمع بالوصول الى السلطة، تريد التشبه بالسيدة نيمانس، للوصول إلى غايتها التي هدفت إليها منذ البداية والتي تظل غامضة نوعا ما، عبثية في محاولة ممارسة تأثيرها على الآخرين في نزعة تدميرية قوى منها اختفاء نيمانس من حياتها.

هذا الغموض ينسحب على الشخصيات جميعا، فالزوج فيرمان (يلعب الدور فريديريك ديفانتال) لا يتمتع بقدر كبير من الذكاء لكنه يعرف كيف يدبر نفسه وعائلته. وهو حذر متحسب، عاجز عن فهم نفسية زوجته التي تحيره أحيانا وعن فهم طبيعة العاطفة التي تربط بين نيمانس وزوجته.

في المقابل، يبدو الزوجان البورجوازيان السيد والسيدة نيمانس (جون مالكوفيتش وارييل دومبال)، هادئين قانعين. فالزوج يحب زوجته حبا لا متناهيا وهي تستطيع ان تطلب منه ما تشاء. إنه نوع من ملاك مؤنس يعيش في ظل زوجته، التي تبذل نفسها ومالها في عمل الخير وتظهر محاطة بالاحترام والإعجاب وأحيانا الشائعات. لكن هل هي تعطي فعلا لتسعد الآخرين أم لتلبي رغبة أنانية في ذاتها؟ الكرم حين يتخطى حده في عمل الخير يصبح اقرب إلى الشر وإلى القوة الشيطانية. نحن لا نعرف اذا كانت نيمانس تهب تيريز بدون حدود لأنها تريد امتلاكها او انها تفعل ذلك بفعل دافع آخر خفي. نيمانس شخصية رومنطيقية في دراما سوداء، تبدو سعيدة حين تكتشف انحطاط الآخرين، وهي تترك نفسها لتتحطم لأنها تبحث عن شخص يكون بمكانة عطائها اللامحدود، من دون ان ينتظر ان يعطي أي شيء في المقابل. أما تيريز التي وضعت نفسها في الطريق الذي تسلكه السيدة كل يوم وجلست تبيع فقرها لكرم السيدة نيمانس، فكانت تحتاج الى بداية توصلها الى ما تريد. لكننا في الفيلم وكذلك في رواية جيونو، لا نعرف حقيقة العلاقة بينهما ولا نعرف حقيقة الشعور الذي تكنه تيريز لتلك السيدة، لكن حملها لعطرها معها سنوات بعد اختفائها يميل بنا لنعتقد أنها بادلتها نفس المشاعر القوية. أما القصة الحقيقية فلن يعرفها أحد ابدا.

إنه هذا العطاء اللامحدود الذي يقود إلى الكارثة في النهاية، كارثة الخروج عن المعهود وجنون المرأتين الذي يتجسد باختفاء الأولى وجنوح الثانية إلى الانتقام.

كل واحد من الشخصيات الأساسية يبدو ملتبسا إلى أقصى حد، التباسا يجعل المشاهد يرتبط بالفيلم إلى النهاية ويحاول فهم الشخصيات وطبيعة تركيبتها لكن ذلك لا يعني انه يخرج من الفيلم وقد اشبع رغبته في معرفة الشخصيات المحيرة التي يبدو أنها تنتمي إلى عالم خاص يتبدى قليله ليمتنع كثيره.

حتى رامبال رئيس فريق العمال في خط سكة الحديد، فانه يبدو محيرا فهو رغم قدرته على إدارة فريق الرجال في العمل يخضع لسيطرة تيريز التي توهمه أنه كان السبب في قتل زوجها الذي أوصت عشيقها بقتله عبر رميه من فوق صخرة كبيرة.

غرض الفيلم المصور تصويرا رائعا على طريقة السكوب السينمائي الذي يعطي للصورة اتساعا اكبر ويسمح بمرور اكثر من حدث في الصورة ذاتها، القول بأن للحقيقة وجوها عدة، وأن جمع عدد من الاشخاص لرواية نفس القصة من ذاكرتهم يوصل الى نتائج متضاربة فيكون على المشاهد استنتاج الوقائع الفعلية من خلال العلامات التي يلحظها في الفيلم. كل ذلك يتبدى عبر كاميرا واقعية مقتصدة أكثر من أفلام رويز السابقة وكثير من الجماليات في الكادرات والاضاءة. الحقيقة المنشودة في «نفوس قوية» تتشكل عبر كم من الملاحظات الذاتية والعلامات، فبناء حقيقة ما عن الماضي يمر بالذات ويفقد بالتالي موضوعيته وحياديته. هذا ما صوره المخرج، فكل رواية تصحح غيرها من دون أن ترجح رواية على أخرى ويبقى التناقض بينها. من هذا التناقض تولد قصة تيريز فكأنما لا يمكن الاطلاع على حقيقة قصتها إلا من خلال هذه الشراذم من الحكاية المستعادة وتجلياتها وتردداتها في ذات الآخرين.

ويشرح جيونو عبارة النفس القوية بانها «النفس التي تملك رسما أي القادرة على السيطرة على موقف في سبيل التوصل إلى هدف محدد بدقة». جيونو يملك عبقرية القدرة على الاحتفاظ بهذا النوع من السرية والغرابة التي تتمتع بها الشخصيات والمخرج رويز عرف كيف ينقل للمشاهد، تلك السرية التي تجعله يفكر بها طويلا بعد انتهاء الفيلم.

جان جيونو كان كاتبا اهتم بالسينما وكان يضع سيناريوهات مأخوذة عن رواياته وروايات اخرى وهو خلف بعد موته عددا مدهشا من السيناريوهات المكتوبة كما انه انتج افلاما كثيرة واخرج فيلما واحدا وهو توفي عام سبعين.

في «النفوس القوية» قدم راوول رويز للمثلة الناشئة ليتيسيا كاستا هدية دورها الكبير الاول في السينما بعد ان كانت أدت دورا واحدا في فيلم تلفزيوني بعنوان «الدراجة الزرقاء» كان أداؤها فيه أهم من أدائها هنا. فهي لم تلعب جيدا هذا الدور الذي يحتاج خبرات ممثلة متمرسة وهي لعبت بعد إصرار، دورها مسنة في الفيلم. ظلت كاستا في أدائها قاصرة عن إعطاء الشخصية أبعادها المحتملة وكان الدور يتطلب منها اكثر والمخرج لم يدرها على نحو اكثر حزما لأن طريقته تقضي بجعل الممثل يجد في نفسه الطريقة المثلى لأداء الدور وهذا خطأ في حال كان الممثل ناشئا. ارييل دومبال وكذلك مالكوفيتش ظهرا أكثر من رائعين في ادائهما لدور الزوجين الثريين.

وظل الاخراج دائرة في سلسلة دوائر من العودة الى الوراء تتوقف باستمرار عند حلقة النساء اللواتي يتذكرن.