نسبة جوائز «نوبل» التي نالها اليهود أضعاف نسبتهم وسط الأميركيين

المثقفون اليهود في أميركا: من سنوات «الغيتو» إلى «العصر الذهبي»

TT

الغت، الشهر الماضي، بعثة بولندا في الامم المتحدة، استضافة د. توني جوت، وهو استاذ يهودي في جامعة نيويورك، لإلقاء محاضرة عن تأثير اللوبي اليهودي على السياسة الخارجية الاميركية، لأن اللوبي اليهودي غاضب عليه، وعلى عدد من المثقفين اليهود الذين بدأوا، خاصة بعد غزو العراق، في انتقاد هذا اللوبي

في واشنطن، وانحياز الرئيس بوش الكامل نحو اسرائيل. قاد حملة الضغط على البعثة ابراهام فوكسمان، مدير عصبة اليهود المضادة للتفرقة. وأثار الحادث اهتمام الصحافيين والمثقفين لأنه برهن على ان قوة اللوبي اليهودي تعدت الضغط على الحكومة الاميركية ووصلت الى ما هو أبعد.

انكر فوكسمان، مدير عصبة اليهودي المضادة للتفرقة، أي ضغط على بعثة بولندا، وقال في ما يخص إلغاء المحاضرة: «سألنا البعثة فقط اذا كان جوت سيلقي محاضرته ولم نطلب منهم إلغاءها». ورد جوت: «كل ما قلت في محاضرات سابقة، وما كنت سأقوله في محاضرتي الجديدة، هو ان اسرائيل لا يمكن ان تكون ديمقراطية ويهودية في نفس الوقت».

واذا كان جوت هو رمز مثقفين اميركيين يهود ليبراليين، فان فوكسمان هو رمز السياسيين اليهود.  وتوضح المشكلة بين الاثنين، في رمزيتها، صراعا تاريخيا في اميركا، ليس فقط بين المثقفين والسياسيين اليهود، ولكن ايضا، وسط المثقفين انفسهم. ورغم ان اميركا تقدم للمثقفين عموماً حريات لا حدود لها، إلا ان اليهود منهم تحديدا يواجهون وضعين متناقضين، فهم في جانب، يؤثرون كثيرا على الثقافة الاميركية، وفي الجانب الآخر، يخافون منها كثيرا. 

لم يعامل الاميركيون اليهود مثلما عومل الافارقة، على انهم جنس بدائي، واشتروهم وباعوهم.  لكن عومل اليهود كطائفة دينية، رفضت الايمان بعيسى المسيح (وقتلته).  وزاد هذا الاعتقاد لأن الاميركيين اكثر شعوب الغرب تدينا.

ولم يسلم اليهود من هذه التفرقة الدينية حتى الحرب العالمية الثانية. لكن، ساعدهم الرئيس روزفلت، عندما اعلن اصلاحات اقتصادية واجتماعية كثيرة، وساعدهم الرئيس ترومان، عندما اعترف بإسرائيل، وساعدوا هم انفسهم، عندما اجتهدوا وتعلموا ونالوا جائزة نوبل واحدة بعد اخرى.اشتهر على المسرح الثقافي الاميركي، حتى منتصف القرن الماضي، مثقفون غير يهود مثل ارنست همنغواي، في مجال الأدب ومعه سكوت فتزجيرالد، ووليام فولكنر، وت. اس اليوت، ثم بدأ يشتهر يهود مثل: نورمان ميلر، وآرثر ميلر، وروث فيليب. واعلن أحدهم قائلاً انه «انقلاب يهودي يسيطر على الرواية الاميركية».

وعلم آرثر ميوري، راقص يهودي، الاميركيين كيف يرقصون، وعلمتهم آن لاندرز، كاتبة عمود يومي في الصحف اليهودية، كيف يتصرفون. وعلمهم رالف لورين، مصمم ازياء يهودي، كيف يتأنقون، وعلمتهم باربرا سترايسند، مغنية يهودية، كيف يغنون، وشفاهم جوناس سولك، طبيب يهودي، من الشلل، ونشر لهم سولسبيرغز، صحافي يهودي، واحدة من اشهر صحف العالم «نيويورك تايمز»، وقدم لهم نورمان لير، منتج تلفزيون يهودي، اشهر مسلسلاتهم التلفزيونية: «في العائلة» و«جفرسون» و«ستانفورد».

عندما كان روزفلت رئيسا سنة 1945، لم يكن في جامعة «ييل» اي استاذ يهودي. لكن، عندما كان كينيدي رئيسا في سنة 1960، كان فيها ثلاثون استاذا يهوديا. وكان ثلاثون في المائة من استاذة الجامعات الكبرى يهودا، رغم ان اليهود يشكلون نسبة اثنين في المائة فقط من الاميركيين. 

وكان، قبل ثلاث سنوات، رؤساء اشهر ثلاث جامعات اميركية (هارفارد وييل وبرنستون) يهودا. لماذا؟ اولا، زاد انفتاح وتسامح الاميركيين. ثانيا، اجتهد اليهود، ربما اكثر من غيرهم. ثالثا، ساهم الذين هاجروا من المانيا هروبا من حكومة هتلر النازية في النهضة الثقافية الاميركية.

وانتقلت الى اميركا «مدرسة فرانكفورت الثقافية» التي جمعت امثال البرت اينشتاين، وحنا ارندت، وهانز مورغنثاو، وقادت الى ما يسمي «عصر اليهود الذهبي». وظهرت مجلة «كومنتري» الشهرية ناطقة بلسان المثقفين اليهود. وانتقل مركز كل الثقافة الغربية، من مقاهي باريس الى شقق ومطاعم ومسارح نيويورك، واستبدل سيغموند فرويد، عالم النفس اليهودي الادوية بالروحانيات، والتواصل والتقارب العائلي بالفردية والاستقلالية. وقاد الان غنسبيرغ، كاتب يهودي، تمرداً شبابياً، انطلاقا من مدينة سانفراسسكو (في ولاية كاليفورنيا)، واسس حركة «الهيبيز» ببنطلونات الجينز وشعر طويل للاولاد وشعر قصير للبنات.

واصطدم المثقفون اليهود بالأغلبية المسيحية الاميركية لأنهم ركزوا على العلمانية، لم يدعوا فقط الى فصل الدين عن الدولة (كما نص الدستور)، ولكنهم، دعوا، ايضا، الى فصل الدين عن الحياة. وكتب شارلز ليبرمان، مؤلف كتاب «اليهودي الغامض» ما يلي: «هودنا، نحن المثقفين اليهود، الاميركيين. لم نغرس فيهم مبادئنا اليهودية، لكن غرسنا فيهم الابتعاد عن الدين والغرق في الحيرة». غير ان مثقفين غير يهود انضموا الى هذا الفكر الليبرالي اليهودي، منهم ثلاثة:

اولا، ادموند ويلسون، مؤلف روايات ركزت على الحداثة.

ثانيا، جون دووي، ابو التعليم الاميركي الحديث الذي اعطى التلميذ والتلميذة حرية النقاش في اي شيء (حتى في طريقة معاملة الاب والام).

ثالثا، الفرد كينسي، عالم جنس في جامعة انديانا، اعلن ان حرية الجنس لا تقل اهمية عن حرية الكلام والتجمع والصحافة، بل اعلن ان الجنس اهم من الانا، ومن الضمير (ومن الله).

كتب ميوري فريدمان، استاذ التاريخ اليهودي في جامعة تمبل (ولاية بنسلفانيا)، في كتابه «ثورة المحافظين الجدد»: «لم يحس المثقفون الاميركيون اليهود، خلال هذه السنوات، ورغم كل هذه الانجازات، بالراحة واليقين، ظلوا يعيشون في تناقض: من جانب، اثرت عليهم عقلية آبائهم واجدادهم المهاجرين والفارين من الظلم والتفرقة في اوروبا، ومن جانب آخر، لم يقبلهم المجتمع الاميركي قبولا كاملا، رغم كل ما قدموا له».

واشار الى ظاهرة تغيير الاسماء، (مثلا: كان المغني بوب ديلان روبرت زمرمان، وكان الممثل كيرك دوغلاس ايسود دومسكي)، حتى مجلة «كومنتري» الناطقة باسم المثقفين اليهود لم تكن، في البداية، تركز على يهوديتها، ولم تكن تتحدث عن اسرائيل كثيرا.

واستمرت هذه الظاهرة حتي اليوم: غير لاري كينغ، مقدم برنامج مقابلات في تلفزيون «سي ان ان»، اسمه. وانكرت مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة، انها يهودية حتى وقت قريب، بعد ان كشفها صحافي في جريدة «واشنطن بوست»، وانكر السناتور جورج الين، خلال الحملة الانتخابية الاخيرة، ان والدته يهودية، بعد ان سألته صحافية في تلفزيون «ان بي سي». 

بالإضافة الى عبارة «شعب الله المختار» الدينية، يعترف كثير من المثقفين اليهود، حتى غير المتدينين، مثل شارلز ليبمان، مؤلف كتب كثيرة عن الموضوع (منها كتاب «تجربتان يهوديتان: اسرائيلية واميركية»)، بأن المثقفين اليهود، بصورة عامة، «منغلقون اكثر من منفتحين، وعرقيون اكثر من متنوعين». ويبدو ان هذا من اسباب اهتمامهم بقضايا الحرية والعدل في اميركا، رغم ما يبدو من تناقض في ذلك. وهناك اكثر من تفسير لذلك: 

اولا، اثر على تفكيرهم وتصرفاتهم تراث آلاف السنين كأقلية ومظلومة. 

ثانيا، يعترف حتى غير المتدينين منهم بأن تعاليم انبياء التوراة اثرت عليهم، وخاصة حرية موسى، وعدل سليمان، ووطنية داؤود.

وانعكس ذلك في التناقض الذي يعيش فيه المثقفون اليهود في اميركا: في جانب، يرفعون شعارات المساواة ورفع الظلم. وفي الجانب الآخر، يعيشون كأقلية عرقية ودينية في بلد يعتبر اكثر بلاد الغرب تأثرا بالمسيحية. 

ويشبه هذا التناقض اليهودي التناقض الاميركي الاكبر، وهو ان  اكثر شعب منفتح في العالم لا يكاد يقدر على ان يعيش بدون تعاليم المسيح (ولا يكاد ينسى ان اليهود رفضوا الايمان به، ثم قتلوه). ووقعت احداث، خلال السنتين الماضيتين ، تدل على ذلك، منها:  

اولا، فيلم «آلام المسيح» الذي نجح نجاحا هائلا (وغريبا)، وبرهن على ان الاميركيين، حقيقة، لا يكادون يقدرون على الابتعاد عن المسيح.

ثانيا، دور السياسيين والمثقفين اليهود في توريط اميركا في العراق. ورغم ان الموضوع شبه سري، يبدو واضحا ان بعض الاميركيين يريد نبشه، وإثارته كقضية رئيسية.

ثالثا، اهتمام الاميركيين بزيادة العداء لليهود في اوروبا، وخاصة بعد غزو العراق الذي عارضته دول اوروبية كثيرة. يقدم كثير من المثقفين اليهود الذين تحولوا من اليسار الى اليمين اسبابا دينية لتحولهم، منها التي كتبها فريدمان، استاذ التاريخ اليهودي في جامعة تمبل، ومؤلف كتاب: «ثورة المحافظين الجدد»:

اولا، قال عيسى المسيح قولته المشهورة: «بيعوا ممتلكاتهم، واصرفوها على الفقراء، وستكونون اغنياء في الآخرة»، لكن، قال تشريع يهودي: «الغني هو الذي يستمتع بامواله».

ثانيا، كان بنجامين دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر، يهوديا محافظا، ثم تحول من اليهودية الى المسيحية، وقال: «ليس هناك محافظون مثل اليهود، لأنهم يركزون على تقاليدهم القديمة، وعلاقاتهم العائلية».

ثالثا، رغم ان كثيرا من المثقفين اليهود ايدوا السود، وقادوا مظاهرات الحقوق المدنية (قبل اكثر من اربعين سنة)، اشترك، خلال القرن التاسع عشر، كثير من التجار اليهود في تجارة العبيد، واعتمدوا على فقرات في العهد القديم تقلل من مستوى السود (سمتهم «اثيوبيين»).

رابعا، رغم تأييد كثير من المثقفين اليهود لمبدأ فصل الدين عن الدولة، دافع، خلال القرن التاسع عشر، كثير من الحاخامات عن التدين، واعتبروا مبدأ الحرية الاميركية دينيا قبل ان يكون سياسيا.

لكن، توجد اسباب سياسية، بالإضافة الى الاسباب التاريخية لتحول بعض المثقفين اليهود نحو الحزب الجمهوري، رغم ان اصلاحات الرئيس روزفلت، واعتراف الرئيس ترومان بإسرائيل جذبتهم نحو الحزب الديمقراطي، جذبهم نحو الحزب الجمهوري عداء الرئيس ريغان لروسيا، وتأييده القوى لنقل اليهود الروس الى اسرائيل، ثم ظهور اليمين المسيحي وتأييده القوي لإسرائيل.

ليس هنري كيسنجر، اليهودي الجمهوري ووزير الخارجية في ادارتي الرئيسين نيكسون وفورد، مثقفا بالمعنى المحدد للكلمة (كان استاذا جامعيا، لكنه اصبح سياسيا)، غير ان نظرية الكيسنجرية، التي تعتمد على «ريل بوليتيك» (الامر الواقع)، التي تأثرت بالميكافيلية والكلاوسفتسية، قللت من دور الاخلاق في السياسة الخارجية. واصبح كيسنجر رمزا لجيل جديد من اليهود الذين لا يرون غضاضة في خدمة مصالح الشركات العملاقة حتى اذا اثر ذلك على اخلاقيات السياسة الخارجية الاميركية. 

وحدث التغيير الكبير مع ظهور المسيحيين المتطرفين وتشكيل تحالف «المحافظين الجدد»، وخاصة خلال سنوات حكم الرئيس جورج بوش الذي اعلن نفسه متدينا، واعتبر تأييد اسرائيل جزءا من تعاليم المسيحية.

تحالف «المحافظين الجدد»، اساسا، هو تحالف مثقفين قبل ان يكون تحالف سياسيين، لكنه صار الآن يواجه مشاكل، منها:

اولا، انخفاض تأييد المسيحيين المتطرفين لبوش وللحزب الجمهوري.

ثانيا، ابتعاد بعض اليهود المحافظين (الاعضاء في التحالف) عن الرئيس بوش بعد انخفاض شعبيته، مثل ايرك ايدلمان، مستشار بوش السابق، الذي كان شبه غزو العراق بأكل الكيك. ثانيا، توقع اثارة اسباب تورط اميركا في العراق، مما سيقود الى تساؤلات عن دور المثقفين والسياسيين اليهود الذين قادوا الحرب (مثل ريتشارد بيرل، مستشار وزير الدفاع السابق، وبول وولفويتز، نائب وزير الدفاع السابق ورئيس البنك الدولي حاليا.

فهل سيكون العراق سببا في ظهور العداء الاميركي المسيحي (المدفون) لليهود؟