سوانح الجاسر.. نبضات من زمن مضى

TT

طوال سنوات، نشرت المجلة العربية سلسلة تزيد حلقاتها عن المائة، يروي فيها حمد الجاسر رحلته عبر ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن؛ رحلة تروي دقائق حياة إنسان طبع بصماته القوية على التاريخ الثقافي والتعليمي والإعلامي، وتاريخ تشكل الوعي في المملكة العربية السعودية. رحلة حافلة بالأحداث والمحطات والشخصيات التي ارتبطت بمسيرة وطن كان الجاسر طول حياته يرى فيه منبع العروبة والإسلام.

منجمٌ من الأحداث والقصص والعبر والمعلومات ... والأحاسيس الحية النابضة كذلك. لقد سطَّرَ حمد الجاسر سوانحه ـ أو ذكرياته ـ بصدق وشجاعة، وكأنها كشف حساب مع الزمن، أو جلسات اعتراف، يقول فيها ما له وما عليه، بحيث لا ينتهي القارئ منها جميعها ـ أي من حلقات السوانح ـ حتى يخرج بقناعة بأن ما للجاسر له، وما عليه له، لا لشيء إلا لأن شيخنا الراحل امتلك من الشجاعة المعنوية والصرامة مع الذات ما منحه القوة اللازمة لمواجهة النفس، ومواجهة الغير والتاريخ. ولذلك تميزت هذه الذكريات ـ كشف الحساب كما قلنا ـ بالشفافية، وبقدر كبير من الإثارة التي ترقى بها إلى مصاف يقرب من فن الرواية في بعض حلقاتها.

عام 1422 هـ، أي بعد عامين من وفاة علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، كنت قد أعددت العدة لإكمال بحث بدأت أعمل على إعداده منذ سنوات، وحالت ظروف إقامتي للعمل خارج المملكة دون إتمامه. كنت أتردد على مكتبة الشيخ الجاسر في منزله للاطلاع على بعض ما كان ينقص مجموعتي من أعداد صحيفة اليمامة. وبينما أدلف من باب المكتبة ذات يوم، قابلت الصديق الدكتور عايض الردادي ـ وكان يخصص جزءاً من وقته لمراجعة مسودات المقالات المعدة للنشر في مجلة العرب ـ وهو منكب على مجموعة من الكتب وإلى جواره مجلد كبير، سألته: هل هذا مجلد مسودات العدد الجديد ؟ فأجابني: لا، هذه سوانح الشيخ الجاسر؟ طلبت منه أن يطلعني على المجلد، وبدأت أتصفح ما كان يحتويه، ثم قلت له: هذه بغيتي يا دكتور عايض، هل تسمح بإعارتي إياها بضعة أيام؟ وكنا على مقربة من شهر رمضان المبارك من ذلك العام، فأجابني بأن ذلك ممكن، وقال: أبقه معك ما شئت من الوقت، وإن كان لك ملاحظات على ما ورد فيه، فأرجو إبلاغي بها. في حقيقة الأمر، لم أكن أتصور أن ذلك المجلد كان ضالتي المنشودة، وقبل كل ذلك لم أكن أتوقع أن يكون ما بين دفتيه مخزوناً ناطقاً بما كنت أتوق إلى معرفته عن مرحلة أرى نفسي وأرى الكثيرين غيري نتاجاً لها؛ مرحلة مليئة بالثغرات المعرفية التي طالما أتعبني البحث عن تفاصيلها. وأقول مليئة بالثغرات، لأن توثيقها كان ـ ولا يزال ـ دون المطلوب؛ مرحلة مليئة بالفجوات، رغم أنه لم يمر عليها إلا بضعة عقود.

وقبل كل ذلك، هي قصة، بل إنها قصة من نوادر القصص، لم تَجُد السنوات الأخيرة بمثلها ثراءً وعمقاً وصدقاً وعِبَر. لا يمكنني وصف مقدار المتعة التي وجدتها في قراءة السوانح، وهي مجزأة على حلقات في المجلة العربية. وأنت تقرأ ـ بل وأنت تسافر عبر تلك الحلقات، تجد نفسك تضحك تارة، ويتقطع قلبك من الألم تارة أخرى، تشعر بالسعادة، ثم ينقبض فؤادك شفقة وتعاطفاً مع شخصيتها، تغضب ويتفطر قلبك حرقة وحسرة، ثم يعاودك الشعور بالنشوة والانشراح. أصدق القارئ القول بأنني لا أدري كيف يمكن لكاتب أن يصور ما عاشه من أحداث بمثل تلك الدقة والوضوح في الوصف، وبمثل تلك القدرة في التحكم في التصوير، وبأسلوب انسيابي متفرد، لا يشك القارئ بعفويته. وقلت لنفسي: لو أن آخرين من جيل الجاسر ومن هم في مثل قامته تجشموا ما تجشمه من عناء وهو في سنوات شيخوخته، وهو عبء ينوء الشباب بحمله، وسجلوا ما مرَّ بهم من أحداث وما مروا به أو شاركوا فيه من أحداث ـ وهي حياتهم ـ أما كان ذلك ليوفر لهذا الجيل وللأجيال القادمة مخزوناً من المعرفة عن طريقة تكون هويتهم الثقافية المعاصرة، ومعرفة الذات بشكل أفضل؟

أمضيت بضعة أيام في قراءت المجلد، وبعد الفراغ من قراءته تساءلت: أي سر كان يمتلكه حمد القاضي ـ رئيس المجلة العربية التي نُشرت فيها حلقات السوانح ـ مَكَّنَه من فتح خزانة ذاكرة الشيخ الجاسر، وجعله يكتب ما يخص حياته الشخصية منها في مئات الصفحات ؟ ثم أعدتُ قراءة السوانح مرة أخرى ـ بعين الباحث هذه المرة ـ مستعيناً بها في ملء ثغرات في المعرفة تخص مسيرة التعليم والثقافة والصحافة في المملكة، وكم هالني ما تنطوي عليه تلك السوانح من معلومات وتفاصيل ناطقة ومعبرة من تاريخ الثقافة والمعرفة في مراحل من حياة المملكة، منها ما يميط الجاسر اللثام عنه لأول مرة، ومنها ما هو معروف مما لم يسبق توثيقه على النحو الذي وثقه الجاسر، لأنه عاشه وكان شاهداً عليه.

اكتمل البحث، ونشر في مطلع العام التالي ـ 1423 هـ ـ بعنوان: (حمد الجاسر ومسيرة الصحافة والطباعة والنشر في مدينة الرياض)، ثم عاد مجلد السوانح لمن تفضل بإعارتي إياه: الدكتور عايض الردادي.

ثم بقيت في النفس حسرة ! حسرة لعدم نشر تلك المذكرات في كتاب يكون في متناول القراء والباحثين والمهتمين، بل ولغير العارفين بوجودها، وما أكثرهم؛ إلى أن جاء هذا العام، وعزَمَ مركز حمد الجاسر الثقافي ـ بإلحاح من الكثيرين وكاتب هذه السطور من ضمنهم ـ على إعادة نشرها على نحو متكامل من التنسيق والترتيب الذي يليق بصاحبها وبمضمونها، كونها قطعة من تاريخ هذا الوطن، ومستودعاً يختزن جزءاً من ذاكرته ومسيرة بناء وعيه عبر عقود من التاريخ المعاصر.

تصدى لهذه المهمة الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، وهو ـ وإن كان غنياً عن التعريف ـ باحث ومثقف بارز، شغوف بإتقان إصدار ما يتصدى له من أعمال بحثية وأخرى يعاد إصدارها على نحو أكثر اتقاناً، فكان هذا الإصدار المتميز من السوانح، بحلته الجديدة: جزءين استكملت فيهما بعض التفاصيل، وأثري مضمونه بصور فوتوغرافية ورسائل ذات صلة من أرشيف حمد الجاسر الشخصي. وعلى هذا النحو، صدرت السوانح، وأصبحت بذلك ـ وفي الآن نفسه ـ قصة، وذكريات، وتاريخاً، ووثيقة للقراء في المملكة وخارجها. وقبل كل ذلك، زاداً معرفياً لأجيال قادمة ستشعر دوماً بالفضل لله ثم لرجال مثل حمد الجاسر.

* وكيل وزارة الثقافة والإعلام

في المملكة العربية السعودية