يوم كانت الإسكندرية تتكلم الفرنسية والإيطالية واليونانية

حكايات يرويها كتاب ومشاهير ولدوا وعاشوا فيها

TT

احتفلت مكتبة الاسكندرية أخيرا بإصدار كتاب «أصوات من الإسكندرية الكوزموبوليتانية»، الذي أعده مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط التابع لمكتبة الإسكندرية، تحت رعاية جامعة لندن متروبوليتان، وبرنامج التراث الأورومتوسطي، وهو جزء من مشروع أصوات البحر المتوسط الممول من الاتحاد الأوروبي.

يرسم الكتاب، الصادر باللغة الانجليزية، صورة لعلاقات إنسانية مميزة تركت بصماتها على منازل ومقاهي وشوارع ومساجد وكنائس هذه المدينة، عبر مجموعة من الصور النادرة لعصورها المختلفة ساهم في جمعها د. محمد عوض رئيس مركز الدراسات والسيدة لوسيت دو صعب، وصور للإسكندرية المعاصرة بعدسة الفنان عبد الله داوستاشي،

يقع الكتاب في 133 صفحة، مع مقدمة عن مدينة الإسكندرية، التي ألهمت عدداً من الكتاب والشعراء الاوروبيين، ومنهم: كونستاتين كافافي وفورستر ولورانس داريل وتسيركاس وجوسسيبي أوجيرتي ومارينتي واينريك بيا.

وتضمن فصله الأول حكايات وذكريات أناس انحدروا من جنسيات متنوعة ويدينون بعقائد مختلفة عاشوا بمدينة الاسكندرية في عصرها، مرفوقة بصور تذكارية نادرة، وركز الجزء الثاني على أهم الأماكن بالاسكندرية، التي اندثر بعضها، وما يزال بعضها الآخر ماثلاً، ومنها ميدان المساجد بحي رأس التين، ومقام أبو الدردار، وكوم الدكة واللبان والعطارين والقباري. أما الجزء الثالث فيتحدث عن الظواهر والمتغيرات السلبية التي طرأت على الإسكندرية، بخاصة خلال الحرب العالمية الثانية والثورة المصرية في عام 1952، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وفترة التأميم في الستينيات التي أدت الى هجرة العديد من الجاليات الأجنبية التي كانت تستوطن الاسكندرية، مما أدى إلى أن تفقد الاسكندرية شخصيتها وتعدديتها الثقافي.

ويبدأ الكتاب بمقابلة مع عمرعبد العزيز قريش، الذي جاء من جدة إلى مصر لتعلم القرآن الكريم وتزوج وعاش بحي بحري، ووالدته إنجليزية الأصل، ويقول« لقد كانت اسكندرية اخرى، اسكندرية أسطورية، كان الجميع بها حتى البائعون يتحدثون الفرنسية، ففي محلات هانو وشالون وشيكوريل وصيدناوي لم يكن احد يتكلم العربية، لقد كانت الاسكندرية أشبة بباريس في أناقتها وازدهارها، واذكر أن عمي قد رأى عرضا مسرحيا للممثلة الشهيرة سارة برنارد ووالدي حضر عرضا لراقصة البالية أنا بافلوفا على مسرح محمد علي، كانت الاسكندرية مختلفة تماما عن القاهرة فضمت قنصليات لدول اجنبية والمحكمة المختلطة وبورصة القطن التي كانت ثاني أكبر بورصة في العالم بعد بورصة ليفربول، لقد كانت الميناء الرئيسي على البحر المتوسط. كما يروي قريش كيف تغيرت المدينة بظهور طبقة البورجوازيين الجدد خلال ثورة 1952 والتي بدأت فيها المدينة تفقد طابعها الثقافي المميز . ومن ضمن الإسكندريين المهاجرين والمنحدرين من أصول يونانية يتحدث المغني الشهير ديميس روسوس الذي يقول «ذكريات طفولتي بالاسكندرية كانت الأكثر رومانسية، واليوم مع انني أعيش في اليونان على ضفاف نفس البحر المتوسط الا أنني عندما ازور الاسكندرية أشعر بعبق ورائحة مميزة هي الهواء اليوناني العربي في الاسكندرية، لقد هاجر أجدادي إليها من جزيرة كريت هربا من الفقر وبحثا عن الامان، وقد ولد أبي فيها، كذلك انا وأخوتي»، وهو يعزو تشكيل وعيه الموسيقي الغني الى العيش بالاسكندرية التي صهرت الثقافة الايطالية والفرنسية في بوتقة واحدة مع الثقافة العربية، يقول:«لقد اعتدنا على أن نستمع الى الأغاني الايطالية والفرنسية عبر المذياع، كما اعتدنا سماع الألحان اليونانية مع العربية وهو ما خلق لدينا تذوقا خاصا للموسيقى». ويحكي عالم الأنثروبولوجي أحمد أبو زيد عن منطقة القباري حيث عاش بين جيران من اليهود والمسيحيين، وشدة انتمائهم إلى المدينة، وكيف كان يتجمع فقراء «الفتوات» واللصوص من جميع الأديان والجنسيات لنهب قطارات الشحن التي كانت تنقل المؤن للجنود البريطانيين، كما كتب الروائي ادوار خراط عن قدرة الإسكندرية الخاصة على استيعاب الوافدين، وتحويلهم إسكندريين من خلال السحر الخاص الذي تفردت به المدينة.

حول ظروف تأليف هذا الكتاب يقول د. محمد عوض مدير مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط بمكتبة الاسكندرية لـ«الشرق الأوسط» :« يقوم المشروع بتأريخ التراث الشفهي والممارسات الثقافية في مدن البحر المتوسط والذي بدأ منذ أربع سنوات، وقد قمنا بتسجيل ذاكرة الاسكندرية الكوزموبوليتانية عن طريق رجال ونساء عاشوا هذه التجربة الفريدة من الانصهار الثقافي والاجتماعي التي لم تضاهها أي تجربة في العالم، وقد تم إجراء 120 مقابلة منها 50 مقابلة أجريت في اليونان أجراها جورج كيبريوس وأجريت البقية في فرنسا ومصر، أجراها جوزيف بولاد وعلاء خالد وفلورا كافيورا، وسنمضي في استكمال هذه المقابلات التي تعد وسيلة اخرى لكتابة التاريخ الإنساني بطريقة غير رسمية». ويضيف:«لقد انشأت قاعدة بيانات متاحة للجميع تتضمن أرشيفا من الحوارات والمقابلات المسجلة والمصورة في موقع الكتروني للتعرف على التراث المشترك بين شعوب المتوسط من خلال عدة مدن هي الإسكندرية وبيروت وبيت لحم وأنكونا وتشانياوسيوتات دي مالوركا وغرناطة وإسطنبول ولاس بالماس دي جران كاناريا ومارسيليا وشمال وجنوب نيقوسيا وفاليتا، وقد صمم المركز 7 خرائط سياحية تحدد تفاصيل المدينة، وتسهل جولات سياحية للمعالم المهمة».

من ناحيتها تقول د، سحر حمودة نائبة مدير المركز:«يروي هذا الكتاب للأجيال القادمة ذكريات من خلال مقابلات لأشخاص عاشوا في الإسكندرية، لقد قمنا بكتابة للتاريخ لا تتحدث عن اختلافات أو معارك سياسية ولكن عن ذكريات شخصية أشبه بسير ذاتية قد تكون صحيحة وقد تحمل بعض الطموحات الشخصية، فهي ليست وثائق مدونة لكنها بريئة من اي أغراض، فالبعض تحدث عن عقائد دينية يهودية ومسيحية وإسلامية، وآخرون عن حياة اجتماعية عاشها الشوام واليونانيون والايطاليون والأتراك والأرمن والفرنسيون وسط المصريين بدون أن يشعروا بالاختلاف».