النظرية الأمنية وواقع الحرب النقيض

صحافيون ومحللون واستراتيجيون إسرائيليون يكتبون حول حرب لبنان

TT

في هذا الكتاب، الذي صدر أخيراً في إسرائيل، يحلل عدد من الصحافيين والمحللين السياسيين والاستراتيجيين الإسرائيليين، من وجهات نظر مختلفة ومن مواقع متعددة، ما حصل قبل العدوان على لبنان وخلاله وبعده. درَس هؤلاء الأسباب والنتائج بعرض التفاصيل اليومية وكشف الخلفيات المسكوت عنها التي سبقت الحرب ومهدت لها، واستعرضوا ردود الفعل، والتأثيرات على وضع الجبهة الداخلية، والتعقيدات التي رافقت الحرب وما تلاها، والمفاهيم الجديدة التي أفرزتها، والخسائر الاقتصادية التي تكبدتها إسرائيل، وتغيّر قواعد اللعبة والأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها القادة العسكريون، والثمن الباهظ الذي دفعه السياسيون.

وجدت إسرائيل نفسها، في حرب الـ «33 يوما على لبنان» أمام مواجهة من نوع جديد. تخوض حرباً مختلفة، لا تواجه دولة بعينها، ولا جيشاً نظامياً. لذلك كان من الصعب عليها تحديد الأهداف وموازين القوى، وبالتالي مفهوم النصر والهزيمة، ممّا أدّى إلى الاضطراب والتناقض والتخبط بين الطاقم السياسي والقادة العسكريين طوال أيام الحرب وما بعدها.

وجدت إسرائيل نفسها، للمرّة الأولى، تخوض الحرب داخل «البيت الإسرائيلي» بعد أن اضطر ملايين المستوطنين إلى النزول إلى الملاجئ، كما اضطرت إلى تعديل جدولها الزمني أكثر من مرّة بعد أن أدركت أنها أمام حرب استنزاف طويلة، ممّا دفعها للبحث عن مخرج يحفظ لها ماء وجهها. فهذه الحرب الإسرائيلية الأولى التي عجز فيها الجيش الإسرائيلي عن اجتياح الأراضي والتمدد بعد خسارة هذا الكم من الدبابات التي تعتبر الأحدث في العالم، مما أثر عميقاً على الوعي الإسرائيلي. كتب «أليكس فيشمان»، مراسل جريدة يدعوت أحرونوت العسكري: إن البون كان شاسعاً بين النظرية الأمنية الإسرائيلية وبين استحقاقاتها، والذي جاء تغييره من خلال الفارق الكبير بين «خطة الدرج» التي أعدتها قيادة المنطقة الشمالية للقتال في جنوب لبنان والتي أوصت بها هيئة الأركان، وخضعت لتدريبات ومناورات واسعة قبل أسبوعين من عملية خطف الجنديين، وبين الواقع في ساحة القتال. كان الحديث عن ضربات جوية تستغرق مدة أسبوعين، وبعدها تبدأ المعركة البرية، والهدف منها استنزاف المقاومة ومحوها من الوجود.

غير أن النتائج كانت مؤلمة ومحبطة. فعلى المستوى السياسي، كانت أهداف الحرب الإسرائيلية ذات سقوف وتوقعات عالية جداً، بحيث يفهم منها فرض الاستسلام التام على لبنان، وبالتالي تغيير الواقع السياسي. فقد لخّص أولمرت صبيحة الإعلان عن شن حربه على لبنان أهدافها الرئيسية: بإعادة الجنديين المختطفين دون شروط، والقضاء على حزب الله وتدمير بناه العسكرية التحتية ورموزه السياسية، وتنظيف الجنوب اللبناني حتى الليطاني، وتغيير الواقع القائم على الجبهة الشمالية. لتحقيق هذه الأهداف شنت إسرائيل غارات جوية وحشية لم يسبق لها مثيل. قصفت المنشآت والبنى التحتية المدنية، وقامت بأبشع أساليب القتل والتدمير. لكن التناقض كان صارخاً بين التصريحات السياسية ومستوى الجاهزية القتالية، والاستعداد لخوض هذا النوع من الحروب. ويرى المحللون أن حكومة أولمرت لم تكن تملك رؤية واضحة حول الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، ولإضفاء طابع «الشرعية» عليها وصفها بعض المحللين الإسرائيليين على أنها «حرب اللاخيار» للإيحاء للعالم بأن إسرائيل دولة عادية تسعى للعيش بصورة عادية في المنطقة.

لم تستطع إسرائيل تحقيق أي من أهداف الحرب، مما دفع أحد كبار الكتاب في معهد يافا للدراسات الاستراتيجية، «يهودا بن مئير» للقول: تقاس نتائج الحروب بقدرة الجيوش على تحقيق أهداف سياسية موضوعة سلفاً من قبل الساسة. وإذا ما سحبنا هذا المنطق على الأهداف الإسرائيلية لهذه الحرب، نرى أن أيا منها لم يتحقق. لهذا فإن هذه الحرب، علاوة على كونها أطول الحروب وأكثرها تكلفة وفشلاً، فهي تعد هزيمة نكراء بالنسبة لإسرائيل.

فلا يكاد يمر يوم دون أن تكشف الصحافة الإسرائيلية حجم الهزيمة العسكرية التي منيت بها الآلة العسكرية الصهيونية، مما دفع بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين للقول: إن هذه الحرب أسقطت البديهيات العسكرية إلى جانب إسقاط ركيزتين في نظرية الأمن الإسرائيلي: مقولة الردع، وانكشاف العمق الإسرائيلي.

ويركز بعض المحللين الإسرائيليين على فشل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، كما ان إزاحة قائد المنطقة الشمالية من منصبه في أوج المعارك البرية يعكس الفشل الذريع لقيادة المنطقة وقيادة القوات المهاجمة التي بلغت ثماني فرق. إن التناقض بين المستوى السياسي والمؤسسة العسكرية دفع بعض القادة العسكريين الإسرائيليين لاتهام المؤسسة السياسية بالإيقاع بالجيش، نتيجة للعدد الكبير من دبابات الميركافا التي تم تدميرها، ولإصابة بارجتين وإسقاط مروحية، مما يؤكد ما ذهب إليه بعض المحللين حول: تآكل الجاهزية، والقدرة القتالية، وفقدان التوازن.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية غداة الإعلان عن وقف إطلاق النار، أن إجمالي الخسائر الاقتصادية لإسرائيل بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب، بلغ 5.2 مليار دولار، منها 2.72 مليار خسائر مباشرة في اتجاهين 1.59 مليار خسائر الجيش، 1.13 مليار خسائر مدنية مباشرة. أما الخسائر غير المباشرة للاقتصاد الإسرائيلي فقد بلغت وفق نفس التقديرات 2.48 مليار دولار. تأتت من خسارة الناتج القومي نسبة 1.5% أي ما يقدّر 2.04 مليار دولار، و440 مليون دولار من تراجع مدخولات الدولة من الضرائب. ويتوقع الخبراء الإسرائيليون أن النمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام الجاري سيكون أقل بكثير من المعدل. لذلك عمدت حكومة أولمرت في ميزانيتها للعام 2007 لتقليص 410 ملايين دولار من ميزانيات الوزارات المختلفة، وحوّلت في الوقت نفسه مبلغ 454 مليون دولار إلى ميزانية وزارة الحرب. في حين يطالب بنك إسرائيل بزيادة الضرائب.

ساهم في هذا الكتاب 43 كاتباً، وهم باحثون في مركز يافا للدراسات الاستراتيجية، أساتذة جامعات، قادة عسكريون، محللون عسكريون في معاريف وايدعوت أحرنوت وهآرتس، مختصون في التخطيط، متخصصون في الشؤون الفلسطينية ورجال استخبارات، وغيرهم من العاملين في ميادين الدراسات والبحوث ذات الصلة. وقد اتفق الجميع ـ على الرغم من أن بعض هذه التحليلات كتبت ونشرت والحرب لم تك قد وضعت أوزارها ـ على أن إسرائيل تواجه مأزقاً وتخوض حرباً مختلفة عن حروبها السابقة مع العرب، كما أجمعوا على أن المقاومة أحسنت استخدام المناورة والحرب النفسية، وأنها تملك خبرات كبيرة وواسعة استطاعت توظيفها بصورة ذكية عززت صورتها وقوتها، وأنها برعت في استخدام وسائل الإعلام كأداة في صوغ وتشكيل الوعي الشعبي اللبناني والعربي والإسلامي حيال نتائج الحرب.

في معرض النقد الذاتي، يرى المحللون الإسرائيليون، أن النتيجة التي آلت إليها الحرب مصدرها الغرور والوقاحة والثقة المبالغة بالنفس والفشل الاستخباراتي الذي لم يتصوَّر أن منظمة «إرهابية» تضم ألفي مقاتل مستعدة أكثر لمواجهة جبهوية بسلاح يعدّ كالقوس والسهم بالنسبة لدبابة الميركافا. ورأى البعض أن السبب يعود لعدم شن حرب وقائية حين اكتشفت إسرائيل أن إيران ترسل كميات هائلة من الصواريخ والأسلحة لحزب الله، وأن سورية تقوم بإمداد الحزب بالصواريخ الثقيلة.

يقول «يوسي سريد» في مقالته: يشتاق الإنسان الطبيعي إلى عالم المعسْكَرين على الرغم من أنه كان قائماً على توازن الرعب. وفي كل توازن يجب أن تكون الخطوات محسوبة. أمّا الآن فالعالم يسخن ويخرج عن نطاق السيطرة، والضحايا في هذا العالم المنفلت من عقاله هم نحن».

إسرائيل تقوم على أكتاف الجيش، فهل لا تزال ثقتها بمستقبلها مضمونة بعد الذي جرى؟