لوران غاسبار .. شاعر كلم الصحراء العربية بلغة بابلية

«أرض مطلقة» قصيدة صممت لتستوعب حجم الضيافة التي لقيها في فلسطين

TT

هناك صعوبة كبرى في اقتفاء أثر شاعر من حجم لوران غاسبار. هذه الهجرة في غابة المعنى التي زرعها الشاعر، كانت ملحمة حقيقية للوقوف على هاوية الكتابة وامتحان النصوص المسافرة بين الثقافات. فلوران، الشاعر العجيب، انطلق من جحيم الصحراء العربية إلى بهاء الحجر والبشر، ملتقطاً عنفوان الحياة من عيون البدو الرحل.

استطاع لوران غاسبار، خلال تجربته الطويلة أن يبتكر خرائط لكتابة مغايرة، ماهيتها الطبيعة، والهويات المرتحلة، والعلوم الدقيقة بمختلف مشاربها، والإنسان المطلق. فكك الشاعر بذاكرته المستقبلية لغة الشعر السائدة، وكسر منطق المألوف ودرب اليد على بشرة كلمات سحيقة تأتي من جسد آخر للكتابة. كيف لا وهو ساحر الكلمات، الذي خرج من معطف الطبيب الجراح؟

متصوف معاصر، خبر الصحراء العربية وأسرار مئات القوافل البعيدة العابرة لمتخيله/ جسده المجنح. لذلك يلتقط القارئ اللبيب إشارته العربية في ديوانه الأساسي الحامل لعنوان «أرض مطلقة»، الذي يكن له صاحبنا عشقا، لا مثيل له، نظرا لاحتفائه بالشرق العربي حيث عاش، لا سيما فلسطين حيث قضى 15 سنة من عمره بين الأجساد والأحلام.

ولد لوران غاسبار في منطقة «ترانسيلفانيا الشرقية»، التي كانت أرضا هنغارية بين القرن التاسع وبداية القرن العشرين، ثم ألحقت برومانيا بعد اتفاقية «تريانون» سنة 1920. ترعرع الطفل في مجتمع تتآلف فيه الألمانية والهنغارية والرومانية، ثم أضاف له والده الفرنسية. لكن لغة الكتابة الأولى كانت الهنغارية، التي أخذ غاسبار يطوعها لتحمل على كتفيه الصغيرين أحلامه الكبيرة عن العالم؛ من دون أن ينسى سحر اللغات الأخرى، التي فتحت له فردوس الأدب العجيب؛ وسحر فرنسية رامبو ودوديه، الذي دسه في رأسه وجيوبه الصغيرة، أستاذ اللغة الفرنسية القادم من عاصمة الأنوار. قضى غاسبار طفولته ومراهقته، محلقا فوق فضاء ترانسيلفانيا سعيدا مثل طائر جذبته زرقة السماء المذهلة. كان أبوه رجل أعمال لا يكف عن الرحيل؛ ويأخذه معه عندما يكون في عطلة ليلقنه دروس السندباد الأولى بين فيينا وبراغ وبودابست، بعد دروس الرياضيات والفيزياء، طبعا. بيد أن «الرحلة الكبرى»، عاشها خلال الحرب العالمية الثانية، إذ ألقي به في معسكر منطقة «باد ورتمبرغ»، وفي ربيع 1945 نجح في الفرار مع ثلة من رفاقه، وساقهم القدر نحو فيلق فرنسي وجههم إلى الألزاس، حيث أقاموا لمدة سنة. وبعد ذلك خيره الفرنسيون بين الإقامة في فرنسا أو العودة إلى أوروبا الشرقية، فاختار الشاب أحلامه الأكثر جنونا: باريس.

هكذا تمكن لوران غاسبار من دراسة الطب في بلاد رامبو. ساعده في ذلك مواطنوه الهنغاريون الذين كانوا متضامنين في الغربة. العشق ملح الاغتراب. تبعت هذه الرحلة الأولى الشاقة، أخرى لا تقل عنها خطرا، إنها رحلة الألسن. فبعد أن حصل الشاعر على الجنسية الفرنسية صار عليه أن يستقر في لغة الآخر: الفرنسية. هذا التحول الكيميائي الجذري، منح غاسبار رؤية نقدية لهذه اللغة، فنجا من التزمير لفرنكوفونية لا يطبل لها إلا كتاب يحترفون فتات الموائد. أودعت هذه التجربة الحدودية مع اللغة الشاعر في أمكنة جديدة من الجغرافية الشعرية العالمية، ومكنته من هوية أسلوبية وتخيلية فريدة القسمات. دراسة الطب والحفريات الباذخة ورياح الأدب وعنفوان الحواس كلها طاقات، عميقة غذت عضلات الكتابة والمتخيل عند شاعر يحس بالوجود إحساس المتعبد الناسك، والفطيم الهاجع في شهوة الرمال الساخنة، والعالم الساكن في جيولوجيا أحلام اليقظة. حقق لوران غاسبار بهذا المسار المتفرد صورة جديدة للشعر الفرنسي، حيث أخرجه من بياض التجريد الذي سجنه فيه مالارميه وبول فاليري وأطلق القصيدة من قيودها، كنسر جارح في مطلق الأبدية الزرقاء. أبدية بعيون إنسان يأتينا من مستقبل الكلمات، من خارج دم القبيلة المقدس.

لماذا لم يترجم غاسبار كاملا إلى العربية؟ سؤال قد يبدو مصطنعا، لكنه جارح، ملحّ ومعقول. ولماذا لم تترجم رائعته «أرض مطلقة» إلى لغة الضاد؟ الجواب ليس سهلا. ومحاولة السير هذه، على حافة الطريق هي الأجدر بنا لنفهم سرّ التقدم في اتجاه شاعر كلّم الصحراء وحجارتها ورمالها وبدوها وليلها بلغة «بابلية»، أسست لشعرية حسية ومادية وضعت الشعر في أتون الحياة نفسها. ترجمة غاسبار تأخرت كثيرا في اللحاق بنسغ متنها الأصلي: الشعر العربي الحديث بمختلف روافده. فأسئلة غاسبار تصب في صلب الشعر العربي المعاصر وتحولاته. أين تبدأ وأين تنتهي القصيدة ولغاتها؟ هل القصيدة حركة أفقية في رحلة النص من الجاهلية إلى اليوم، أم حفر عمودي في دينامية الشعريات العالمية، التي تعبر النص الشعري العربي والمغربي الحديث؟ سؤال مزدوج، مدوخ، يضعنا في دوامة أسئلة قصيدة لوران غاسبار نفسها. وقصيدة «أرض مطلقة»، هي المدخل المادي لتلمس طريقنا في متاهات المعنى الملقى في الطريق هكذا. نسبت هذه القصيدة مفهوم الشعر، إذ صار النص أرضا مشرعة على المطلق. غير أن هذا المطلق ليس ميتافيزيقيا، بل فيزيائي تتفرع أغصانه في اتجاهات المادة الزاحفة على وجه العالم المقنع. فالشعر عند صاحبنا شقيق النثر وربيبه. لا حرب ولا سلم: بناء متواصل لذاكرة إنسان جديد.

«أرض مطلقة»، قصيدة طويلة كتبت في صباحات القدس البيضاء، حيث كان غاسبار، يكتب قصائده قبل أن يلتحق بالمستشفى الفرنسي ببيت لحم في فلسطين. هذه الإقامة في أرض الأنبياء والقديسين والنساك، فتحت له أبواب الضيافة الفلسطينية على يد المرضى، الذين كان يعالجهم والرعاة والبدو الذين كان يزورهم في رحلاته الاستكشافية رفقة الأب دوفو في صحراء الأردن. مما جعله يفكر في نص يستوعب هذه الضيافة المطلقة، التي عاشها في فلسطين المحتلة. فكانت «أرض مطلقة»، اليد الممدودة إلى العرب. اختمرت «الملحمة» طيلة سنوات الإقامة الصعبة وأصبحت ضرورة حياتية لتسجيل فرح الكينونة الشعرية الخالص. تشكل النص كطبقات جيولوجية سحرت عيون الجراح الهائم في بيداء العرب اللانهائية وتداخلت فيه الخطابات المتنوعة. فصرنا أمام نص متعدد الأصوات كسر شعرية الأجناس الأدبية التقليدية ووظف العلوم الدقيقة والتاريخ والجغرافيا والنصوص المقدسة والوثائق الخام. تطلبت كتابته سنتين من العناء الفكري والروحي لينشر سنة 1972. وأعاد فيه الشاعر النظر في طبعته الثانية التي صدرت بعد عشر سنوات عن دار «غاليمار»، لأنه أحس أن المطلق لم يكتمل بعد في قصيدته. وهذا ديدن الشعراء الذين اقتفوا نداء الصحراء البعيد، فهم كلما لامسوا المطلق ابتعدوا عنه وأعادوا الكرة من جديد إلى ما لانهاية.

لعل نجاح «ملحمة»، كما يسميها لوران غاسبار نفسه، «أرض مطلقة» في خلق لغة شعرية جذرية عصبها التعدد والاختلاف الوحشي، وفتحها الباب على مصراعيه أمام جسارة نقدية جديدة في بناء القصيدة الحديثة، هو الطريق الثالث لاكتشاف أرض القصيدة السرمدية. قصيدة الإبدالات اللانهائية التي يمكنها أن تحاور شعريات العالم الأخرى، وعلى رأسها الشعرية العربية من دون كلل.

لذلك فترجمة هذه الملحمة، رغم شعابها ومهاويها، قد تمكننا من الوقوف على كونية لوران غاسبار، الذي استطاع أن ينطلق من جحيم الصحراء العربية إلى بهاء البشر والحجر ملتقطا عنفوان الحياة في عيون الرحل بواسطة نص صعب تلزمه المصاحبة الطويلة والتأمل الحسي المستديم لولوج مغالقه الكبرى. ما حاجتنا اليوم إلى كتاب مشوا بنعال من ريح في جغرافيتنا المادية والرمزية؟ إنها الحاجة لتأسيس هوية حوارية وديناميكية مع الآخر، لبناء عالم مواز نجلس فيه في مكاننا الحقيقي: المستقبل. أليس كذلك يا جان جينيه، إلياس كانيتي، رولان بارت؟