سلفادور دالي تمنحه لندن شرف الإقامة الدائمة في ربوعها

حالة استثنائية لعبقري نادر

TT

لا تضاهي أعمال السوريالي الإسباني سلفادور دالي، سوى تلك التي نفذت على يد البلجيكي رينيه ماغريت ومدرسة الباوهاوس الألمانية، في تلقف فنون الإعلان والتسليع لها. فما أطلقته صنائع هؤلاء الفنية وجدت جواز مرورها، بفعل الإنتاج وإعادة الإنتاج، الى الأسواق ودور الأزياء والمكاتب والمنازل والسينما والمسرح وتصميم الكتب... والقائمة طويلة. ولكونها توفر مادة خيال لا تنضب، وقرينة عصر حداثة المدينة الأوروبية النهمة، فقد زاوجت تلك الأعمال الفريدة من نوعها بين عالمي الفن والحياة.

وحده «دالي» (1904-1989) كان الاستثناء.. قامة فارعة.. شوارب معقوفة.. هوس جنوني بحب المال.. حامل عصا المشاكسة خلف قناع الأستاذ.. هو صاحب السيرة المترعة التي تقاطعت مع مدارس فنية كبيرة شغلت النصف الأول من القرن العشرين بصخبها، لتكرسة أحد أفضل من وظف خيالاته وهلوساته في أعمال فنية صادمة. تلك التي بدأها رساماً للمناظر الطبيعية وانتقل الى الانطباعية وأقترب من المستقبلية الإيطالية لفترة قصيرة، قبل ان يحط رحاله في خيمة السوريالية. وكان من ثمار هذه الفترة صداقات وخصومات مع أعلام القرن الفائت الكبار، وأحياناً مع معارفه أو أعدائه، مثل الشاعر لوركا والسينمائي لويس بونويل والفرنسي أندريه بروتون ومونيه وبول أيلوار وماكس أرنست ومان راي وميرو وبيكاسو وآرب.... وهو أحد الموقعين على «البيان الأصفر» في العام 1928، الذي عد ثورياً آنذاك لما احتواه من خروج على تقاليد المدارس الفنية الصارمة.

لم تعرف بريطانيا، وبالذات عاصمتها لندن، الحراك الفني ونزعات التجريب، ومتاهة المغامرة الذي عاشته عواصم أوروبية مثل باريس او بروكسيل او برشلونة او برلين في عصورها الذهبية، إلا في حدود ضيقة. فقد أبقت لندن لنفسها، وهي ذات الإرث البراغماتي على الصعيدين الفكري والفني، مضافاً اليه نزعة المحافظة المبالغ بها، مسافة تمنع إغراء التمرد. ولعل الإغراء، وهنا تكمن المفارقة، وصل الى هذه الجزيرة عبر نفق قطار سريع يربطها بباريس وبروكسيل، قبل ان تفتح فضاءها العام الى رياح الفوائد الثقافية والفنية والسياحية القادمة من القارة الأوروبية.

وضمن معادلات حسابية دقيقة للسوق، لعب فيها الربح والخسارة لعبته الماكرة، وقع الاختيار على سلفادور دالي ليفتتح له معرض دائم على ضفة نهر التيمز الجنوبية، وبالقرب من دولاب «عين لندن» الدوار، كجزء من الاحتفالية بالألفية الثالثة. وليكون بذلك دالي هو أول فنان أوروبي تخصه العاصمة بكرمها، وعلى أديم بناية «مجلس بلدية لندن الكبرى»، ذي الميول اليسارية الذي ناصبته رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر العداء قبل ان تتمكن من حله.

اسم المعرض «عالم دالي»، ويشمل أكثر من 500 عمل فني تتراوح بين المنحوتات والتخطيطات النادرة والمجوهرات والحلي الذهبية والمنقوشات والأعمال المنفذة بالأصباغ المائية. وقسم المعرض بطريقة لا تخلو من مفارقات عالم الفنان ونوادر شطحاته وأقواله المأثورة، بدءاً من قسمه الموسوم «الأنوثة والحسية» الذي يفتح على «الدين والميثولوجيا» وانتهاء بـ«الأحلام والخيلاء».

ومن بين تلك الأعمال يجد الزائر سلسلة الرسومات والتخطيطات التي نفذها الفنان بأسلوبية لا تخلو من دقة في رصد التفاصيل الصغيرة وبلغت 124 قطعة ضمها الى كتابه «حياة سلفادور دالي السرية» الصادر في العام 1942. والى جانبها أعماله الزيتية التي صممها لشريط البريطاني الفريد هيتشكوك «المسحور» في العام 1945. فيما تحتل «أريكة الشفة» ذات اللون الأحمر القاني، ومنحوتته الأشهر «استعادة لتشكيل النصف الأعلى لجسم امرأة»، الجزء الأكبر من القسم الأول. وبينما يستعير من «الكوميديا الألهية» تخطيطاته البالغة 100 عمل في قسمه الثاني. في حين يدخلنا القسم الأخير الى عالم اللاوعي الذي استنفذه الفنان ووظفه في «مقاومة الذاكرة» و«تمظهر الزمن» و«أليس في بلاد العجائب» و«الحياة كحلم». معرض «عالم دالي» جولة سياحة فنية ممتعة في فضاءات اللاوعي وعلى أرض مدينة نساءة لوجوه زارتها.