رحلة سيدة الصحراء البريطانية إلى الشرق الأوسط

سيرة رحالة هربت من نفاق المجتمع اللندني الأرستقراطي

TT

يمثل كتاب لورنا جيب «السيدة هيستر» حكاية سفر وترحال، تحمل الكثير من التجارب الممتعة والمؤلمة على حد سواء. الكثير من المعاناة والوحدة، والقليل من الحب والاستمتاع بالحياة. هي الحياة ذاتها كما تمنت أن تعيشها السيدة هيستر ستانهوب. فقد قررت أن تعيش حياتها كما أرادت، مهما كانت العواقب أو المخاطر. مثلها في ذلك مثل السيدات الأوروبيات اللائي قررن السفر إلى الشرق الاوسط في القرن الثامن عشر، ليس فقط لاكتشاف عالم جديد، ولكن لبحثهن عن الحرية بعيداً عن المجتمع الأرستقراطي بعاداته وتقاليده البالية

نشأت الدكتورة (لورنا جيب) مؤلفة هذا الكتاب في «بيلشيل» بـ«اسكتلندا»، وعملت كمحترفة عروض تعبير حركي بـ«إيطاليا» لفترة وجيزة، قبل أن تتجه للدراسة في جامعة بريطانيا. حصلت (جيب) على درجة الدكتوراه من جامعة «ادنبرة»، وحاضرت في العديد من الجامعات منها هلسنكي وشيفلد، والعديد من الجامعات الأخرى. وقد حاضرت جيب أيضاً كضيفة في جامعة «سالزبرج». ويعتبر عملها الأدبي «السيدة هيستر» أول أعمالها الكتابية التي تتناول السيرة الذاتية للرموز التاريخية.

ويلقي الكتاب الضوء على السيرة الذاتية لإحدى الرحالات الأوروبيات، وهي الليدي هيستر ستانهوب، التي عاشت لمدة ستين عاماً منذ عام 1779، إلى عام 1839. الليدي هيستر سيدة أرستقراطية ولدت في عصر الثورة الفرنسية، التي تأثرت وأعجبت بها، وذلك لأن والدها كان واحداً من أتباعها. وبعد وفاة والدها، ارتحلت لتقيم عند خالها رئيس الوزراء البريطاني ويليام بيت. وبعد وفاته في 1806، قررت أن تختار متعة وتشويق السفر والترحال، والمغامرة، بعيداً عن الحياة كعانس في مجتمع «لندن» الهادئ، الذي يجبر أعضاءه على التطبع بطبعه.

بطلة هذه الأحداث ذات فكر تحرري متمرد إلى حد بعيد، فهي ترى في السفر والترحال تغييراً وتجديداً للأفكار. وعلى الرغم من أنها كانت واحدة من أفراد المجتمع الأرستقراطي الانجليزي، فهي لم تجد فيه نفسها، ولا شخصيتها، لما يتسم به المجتمع، كما ترى الكاتبة، من ادعاءات ونفاق اجتماعي ونميمة، الأمر الذي كانت هى إحدى ضحاياه نتيجة عدم زواجها وعلاقاتها العاطفية الفاشلة.

بعد وفاة خالها، قررت الليدي هيستر الابتعاد عن المجتمع الانجليزي، والذهاب في رحلة استكشافية للشرق الأوسط. وكان برفقتها في هذه الرحلة طبيبها الخاص تشارلز ميري ون. تعرضت رحلتها للخطر لأول مرة عند غرق السفينة التي كانت تقلهما، ولكن تم إنقاذها بأعجوبة، وتلا ذلك تعرض رحلتها إلى العديد من المخاطر الأخرى. وبعد ذلك، تم استقبالها في تركيا بحفاوة، فهي لا تزال واحدة من الطبقة الأرستقراطية. وكان يستقبلها ويرحب بها كبار رجال الدولة والقيادات. وأكملت رحلتها في الشرق الأوسط، حتى وصلت إلى جبال لبنان، واختارت أن تستقر هناك، فاتخذت لنفسها منزلاً كبيراً شيدته بنفسها.

ومن الواضح أن الليدي هيستر قد نجحت في الاندماج مع المجتمع اللبناني، وكانت في المقابل تحظى بكثير من الاحترام والتقدير. فقد كان لبنان يتعرض في هذا الوقت لكثير من الصراعات الطائفية العصيبة بين المسيحيين والدروز، وكان يعاني أيضاً المجاعات والاحتلال العسكري، وقد أرادت الليدي هيستر أن تكون حيادية في حكمها على النزاعات السياسية الموجودة، ولكنها لم تستطع، وذلك لأنها ساندت الجانب الدرزي، وقد حولت منزلها إلى مكان لإغاثة الشعب والجنود، هذا إلى جانب مساعدتها للفقراء والمحتاجين من كل مكان.

إن الكتاب يسرد حياة إنسانية فريدة تمتاز بقوة الشخصية والصلابة والعناد، حتى انها عندما ذهبت لاسطنبول، رفضت زي المرأة التركية، ورأت في زي الرجل ما يعبر عن شخصيتها وفكرها. وعندما انتقلت إلى الشرق الاوسط، أطلق عليها الناس لقب ملكة الصحراء نسبة إلى الملكة «زنوبيا» قديماً، وذلك لتشابه الشخصيتين.

تعرضت السيدة هستر للكثير من الإحباطات، وكانت أيضاً مليئة بالمتناقضات، فقد أرادت أن تهرب من الترف والحياة الأرستقراطية الانجليزية، ولكنها كانت تحيى بنفس النمط في الشرق. وعلى الرغم من أنها كانت تندد بالعبودية وترفضها، إلا أنها كانت تعامل خدمها معاملة سيئة. من جانب آخر، كانت كريمة مع ضيوفها وتساعد المشردين والفقراء. وقد عانت هي أيضاً الكثير من الجفاء والوحدة، وكانت تخاف كثيراً من الأقاويل التي انتشرت عنها في انجلترا، مما جعلها لا تريد ـ ولا تستطيع ـ العودة لوطنها، وانتهى بها الأمر إلى موتها وحيدة غارقة بالديون.

يمثل هذا الكتاب التجربة الأولى للكاتبة الدكتورة لورنا جيب، وقد قامت بجهد كبير كي تجمع المادة الخاصة بالكتاب، فقد تتبعت خطوات هيستر في الشرق الأوسط، واستعانت برسائلها، وما كتبه طبيب (هيستر) الخاص (تشارلز ميري ون)، ونجحت في أن تساعدنا على الرجوع بالزمن إلى الوراء، وتصور ما كان عليه الشرق الأوسط في ذلك الوقت بأماكنه وشخصياته، ونجحت أيضاً في شحذ خيالنا وجعلنا نتخيل هذه الحياة غير العادية التي عاشتها السيدة (هستر) من قلب الشوارع الضبابية في «لندن»، إلى قلب الانعزال وسط جبال لبنان.