التصالح مع العالم.. بالألوان

مفهوم المكان وفكرة التواصل الأمومي في رواية مصرية

TT

تعتمد هذه الرواية على تراث تراكمي مكثف ليس مرتبطاً بأفق حضاري واحد، وذلك على مستوى البنية والرؤية. فالبنية ترتكز على فكرة التعددية الصوتية ـ البوليفونية ـ فصل ترويه ليلى بصوتها ويليه فصل ترويه نيرفانا عمتها. وتقنية التعددية الصوتية في هذا العمل لا يقتصر عملها على تقديم نفس الحدث من وجهات نظر متعددة (كما في «أصوات» لسليمان فياض و«في عين الشمس» لأهداف سويف مثلاً)، بل هي تقنية يتم توظيفها لإكمال الحكي فتكتمل الصورة بما في ذلك بناء الشخصيات وفهمها لعالمها الذي تعيش فيه. وكأن التعددية الصوتية ذات وجهين: تقنية سردية وقلب البنية نفسها، حتى يبدو تبادل الأصوات وكأنه حوار بين ليلى ونيرفانا. أما على مستوى الأفق المعرفي فالتناسخ والتقارب الحادث بين ليلى ونيرفانا ـ «كنت تقولين لكل شيء بداية ونهاية.. أما نحن فكانت لنا بدايتان وسنظل نتناسخ..لانهائياً» (ص 15) ـ ينهل من علاقة أمومية تاريخية شكلت تراثاً ضخماً، منه على سبيل المثال وليس الحصر رواية «اتبعي قلبك» لسوزانا تامارو الايطالية، و«زهرة الكركاديه القرمزية» للنيجيرية شيماماندا أديتشي، و«اللون القرمزي» لأليس ووكر، و«المحبوبة» لتوني موريسون، وغير ذلك الكثير من الأعمال التي تعتمد على احياء فكرة التواصل الأمومي وتؤكد على أثر ذلك في تحولات الشخصية. لا تغفل «سحر التركواز» التراث المحلي/ العالمي الفرعوني الذي تعيد الأسرة انتاجه باعتبار منشئها هو مدينة المنيا ـ عروس الصعيد، وهو تراث تنتقي منه نيرفانا أحجار الفيروز واللابيز، والتراث الديني المتمثل في تعاليم الأسرة التي تتقارب مع الوصايا العشر من حيث حفظ قدسيتها وتوارثها، وآيات القرآن الكريم والتوجهات الصوفية «ضعي سراجك على منارة لينظر الداخلون النور» (ص18).

بكل هذا الوعي الفني والإبداعي تتحول «سحر التركواز» إلى كتاب تعاليم، أو بالأحرى إلى تعويذة تهديها نيرفانا لابنة أخيها ليلى، التي تحاول بدورها فك شفرة تفاصيل التعويذة أثاء الغيبوبة التي تعاني منها نيرفانا اثر اصطدام رأسها بقارب في البحر.. البحر التركواز كما كانت ترسمه دائماً. بدخول نيرفانا في الغيبوبة تبدأ ليلى رحلة الفهم واكتشاف الذات. وفي أثناء هذه المحاولة تبدأ نيرفانا في حكي تاريخ العائلة من الزاوية الأمومية، فنتابع تاريخ الجدات وأخوات الجدات والخالات والعمات والعاملات المقيمات بالمنزل. يأخذ حكي نيرفانا شكل استعادة صور من حياتها التي تشكلت بوحي هذا التاريخ الأمومي، يتزامن مع ذلك محاولة ليلى فهم كراسة الرسم الخاصة بنيرفانا، والتي كانت قد أهدتها لليلى قبل الحادث مباشرة. كانت كل صورة تحمل رؤية نيرفانا لذلك التاريخ سواء كان الأمومي الأسري أم تاريخها الخاص والذاتي. ومن هنا تحمل كراسة الرسم عدة دلالات. فهى أولاً ـ وعبر شرح الرسوم ـ تعبر عن وعى نيرفانا الشديد بالتعاليم القبلية الصارمة ومحاولة تمردها عليها واخفاقها في ذلك، وفي نفس الوقت تمثل الكراسة بالنسبة لليلى البوابة التي تساعدها على فهم طاقاتها الكامنة وقبول فكرة اختلافها عن القبيلة الأمومية المنتمية للمنيا نتيجة انتمائها لأم جاءت من الاسكندرية وتمردت على القبيلة الفرعونية اذ لم تتحمل البقاء داخل جدران التقديس المتوارثة بعيداً عن البحر التركواز.

يحتل مفهوم المكان مركزاً رئيسياً في الرواية. فتمثل الاسكندرية ـ التي تقضي فيها العائلة شهراً كل صيف، مقابلاً للقاهرة والمنيا حيث يعود النظام إلى قواعده بكل صرامة. فكأن نيرفانا كانت تساعد ليلى على انطلاق عقلها وروحها من منظومة قواعد المنيا المقيدة إلى رحابة الاسكندرية وبحرها. وجاءت الأدوات التي قدمتها نيرفانا لتحقيق هذه الانطلاقة جزءاً من المنظومة الابداعية: كراسة الرسم والألوان والأحجار. تمثلت قواعد مدينة المنيا في «لعنة الأحمر والذهبي و.. غواية الأبيض» أما الاسكندرية فقد تمثلت قواعدها أو بالأحرى لا قواعدها في البحر بألوانه التي تنهل من درجات الأزرق حيث سحر التركواز الذي لا يقاوم. وبذلك ترتبط هذه الأدوات ارتباطاً مباشراً بمفهوم الحرية من وجهة نظر نيرفانا والتي تعني التمرد على الألوان الثابتة لعائلتها: الأسود علامة غياب الزوج، الأحمر والذهبي علامة القوة والثراء، أما الأبيض فهو علامة معطف الطبيب حيث امتلكت الجدة «قوة سحرية بدورها تحيل كل أفراد الأسرة إلى مرتدي معاطف بيضاء، تتناقلها الأسرة كطقس مقدس...». تنجح نيرفانا في نقل تعاليمها لليلى عبر ادخالها في عالم لانهائي من الألوان والأحجار والرسوم وانعكاسات الضوء.

إذا كانت نقطة التحول قد حدثت لنيرفانا عندما التقت بمهند في ألمانيا فان نقطة التحول قد حدثت لليلى عندما دخلت نيرفانا في الغيبوبة، وكأن الغيبوبة هي شكل من أشكال الهجر القصدي لتحاول ليلى أن تعرف طريقها في العالم وداخل ذاتها، فكانت ألوان الأحجار هي المؤشر الذي يدعم كراسة الرسم لتصل ليلى إلى سر سحر التركواز. «ألواني أنا كانت مجرد ألوان.. صناديق كرتونية تحمل أقلاماً فلوماستر.. جواش..زيت..أما أنت فقد كانت ألوانك بالضوء..ولعك بالكشافات المسرحية المبهرة المغلفة بسيلوفان يعكس درجاته..ثم ألوان الأحجار الكريمة التي فردتها أمامك لأوسع دائرتك وأزيد من خياراتك..». عاشت نيرفانا الحرية بداخلها عبر الألوان وتشي الفصول الأخيرة أن ليلى ستتمكن من ممارسة هذه الحرية في العالم- بالاضافة لذاتها. وكانت المصالحة مع الذات هى الخطوة الضرورية لتحقيق هذه الحرية، تقول ليلى: «كنت تسعدين حين ترينني أسلك درباً غريباً عن دروبك، فهل أنت سعيدة الآن حين أخبرك وبكل عزيمة إني أحب الحياة وأكره الموت الذي تغازلينه في أدعيتك وكأنما تستعطفينه أن يحسن معاملتك حين تتقابلان» (ص 112). ما لا تعرفه ليلى أن نيرفانا التي استعادت شريط حياتها في أثناء الغيبوبة قد تصالحت مع ذاتها أيضاً «سأحتضنهم لأنني بدأت أتقبلهم كما هم بضوضائهم وثوابتهم التي لا تتزحزح لأنني أخيراً تصالحت مع نفسي» (ص 113)، في الحالتين كان التصالح بالألوان «أنا أعشق الحياة، خاصة عندما تكون مرصعة بفصوص الأزرق والأحمر والموف والأخضر» (ص 115).

«سحر التركواز» رواية تتصالح فيها امرأتان مع الذات والعالم بالألوان والرسم والفن، رواية تتداخل فيها الأصوات السردية لتتكامل ولينير كل منهما الآخر عبر استعادة ومراجعة تاريخ أمومي لا يقل قسوة أحياناً عن التاريخ الذكوري، ليلى ونيرفانا امرأتان تحاولان كسر القوالب السلطوية المصمتة باستخدام منظومة ألوان مختلفة.. عبر الفن وسحر التركواز. كان فك شفرة الألوان هي وسيلة الخروج إلى النهار (الاسم الحقيقي لكتاب الموتى)، لفتح طاقة النور، ولاكتشاف كل الألوان الداخلية التي يمكن للنفس أن تسبح فيها لتنعم بالرحابة.