حوار الورد مع الذاكرة والمكان.. والإنسان

400 وردة دمشقية .. لم يبق منها سوى 21

TT

حيكت أساطير عدة حول الورد، ويرد في إحدى الخرافات الدمشقية أنّ الورد لا يكون «شبوباً إلا إذا كان مسروقا أو منهوبا من دارته وتربته الأولى». ويعزو الباحث والشاعر محمد خالد رمضان هذه الخرافة إلى الصراعات القبلية والغزوات العربية القديمة التي كانت فيها العرب تبذل أرواحها في سبيل لقمة العيش. ولا تزال سيدات دمشقيات يحاولن اختلاس الشتلات والأصص من جاراتهن وقريباتهن، وقد يسخرن طفلا أو طفلة للاحتيال على خطف غرسة ورد.

وتقول خرافة ثانية ان المرأة الحائض تقتل الورود إذا مرت بها! ولهذا لا تزال بعض السيدات الشاميات يحرصن على وقاية مساكب ورودهن وأزهارهن من الضيفات اللاتي يقدرن بغريزتهن أو حدسهن إذا كنّ في حالة الطمث القمري، بل ان بعض أطياف الوعي الشعبي لا تزال تعتبر الحائضة نجسة، وهو من الإرث التوراتي القديم، ويتعارض مع دلالات الخصب العشتاري الشائع في أساطير بلاد ما بين النهرين والشام البابلية والفينيقية.

ثمة أساطير أخرى نقرأها في الكتاب، وهي لا تزال حية إلى الآن في ربوع الشام، مثل أسطورة خميس مريم. ففي الخميس الثاني من ابريل /نيسان/ يجتمع الأطفال وقت الضحى في اضاميم وحلقات ويجولون على البيوت وهم يغنون للسيدة العذراء، وينشدون بعض الأغاني الشعبية المتوارثة. ويجيء الجواب على هذه الأغاني رجوما من باقات الورد يقذف بها الأطفال من الدور وشرفات المنازل. وعلى رأس هذه الباقات وردة المسيح الحمراء «شوكة المسيح» ومعها بعض الحلوى والقضامة ثم يجتمع الأطفال جميعا ويقصدون البراري في مواكب جذابة وهناك يلعبون ويرقصون.

الأسطورة الثانية هي أسطورة خميس النبات. ففي الخميس الأول من ابريل /نيسان/ يخرج الناس من بيوتهم ويعيشون مع الأزهار، ولا يعودون إلى البيوت إلا مع عودة الشمس إلى دارة المغيب. ويرى الباحث رمضان أن هذا العيد نيروز سوري، يساوي النيروز الكردي والفارسي في مراميه الأسطورية ورموز الخصب ودورة الحياة.

يدخل الورد أيضاً في كثير من وصفات السحر والشعوذة، وغالبا ما يكون من النوع النادر المنال مثل الورود الحمراء كالقرنفل والجوري ووردة المسيح، كما تدخل الزهور في حجب الأطفال الواقية من العين والسحر. ويرد ذكر الورد كمحرك درامي في كثير من الحكايات الشعبية مثل (زر الورد وست الحسن) وحكاية (ورد وشيخان) ولا تخلو أغنية أو أنشودة شامية من الورد.

كان الورد ولا يزال صديقا للإنسان، له لغة خاصة يخاطبه بها، ويصاحبه في الرحلات والأحزان والأفراح ويعبر به الإنسان عن أشواقه وانفعالاته، ويطرزه على ستائره وفرشه ووسائده وأغانيه وزغاريده، واستعار للمرأة الجميلة كل أوصاف الزهر، واستخدم رموزه في أحوال الهيام والحب والوله والتقرب والوصال والانتظار واللقاء والدهشة وما يعتمل في الوجدان.

ولأسماء الورود دلالات ورموز ومعان شتى، تعود إلى جدل الزمان مع المكان والذاكرة. فشوكة المسيح تذكر بتاج الصلب المسيحي، فهذه الزهرة لها وردة حمراء صغيرة محاطة بسور من الأشواك، و«زهرة البلسم» تستخدم في صنع الأدوية، و«كالونيا» و«عطرة» و«ريحان» زهور عبقة فواحة، و«العايق» زهرة جميلة الحركة، و«فتنة»، جميلة حتى التوهج، و«شقائق النعمان» دموية اللون مثل دم النعمان، و«تاج الملوك» تشبه التاج. وكذلك معاني الأزهار. فـ «الشاب الظريف» للاعراس وتزيين الأواني النحاسية والفضية والذهبية، و«العايق» المتفجر اللون للحرمان والحب غير المتكافئ، و«الجميلة ذات الأجراس» للأحلام الهادئة والجمال في أعلى أشكاله، كما أنها زهرة التأمل، و«القرنفل» لهيجان النفس، وهي أيضاً زهرة الثورات السياسية بلونها الحار الحاد الحارق الفوار، وتقدم أيضاً كهدية ثمينة في الأفراح، وتستخدم في الحلويات لشدة حلاوتها. و«الفل» لمعاني الحب والأنس والسحر والتداخل والانسجام و«الياسمين» للأمل والانطلاق والتواصل والغبطة والأمان، و«البنفسج» للبهرجة والبهجة، و«النرجس» للتبصير في الزمن والكبرياء والصفاء، و«النفناف» للجاذبية والانسجام والنقاء والربيع، و«الشمسية» أو«حسن يوسف» للزركشة والنجوى والمسرة والنشوة وجمال الوجود، و«الجوري» يرمز للقاء بعد الفراق واللطافة والرهافة، و«الزنبق» للوعة والذوق الرفيع و«الأقحوان» للسكينة والمناسبة، و«المرجان» للشفافية والتأمل، و«الشكرية» للأسرار والفتنة، و«الريحان» الحياة والروح، و«الليلك» للتشوف والاستشراف والرغبة الجامحة، و«الحبق» للسمر والسهر وروعة الأنس والخصوبة، و«شقائق النعمان» للانفعال والرغبات المكبوتة والحب الأول والحيوية، و«الآس» للإشراق والرؤيا وذكرى العابرين والرحمة والخلود.

ويرى الكاتب أن شكل العلاقة بين الورد والإنسان قد تغير في العصر الحديث، فقبل عدة عقود كان الإنسان حريصا على تخصيص بقعة في داره لمساكب الورد وأحواض الزهر، لكن مع ازدياد وتيرة عصر الاستهلاك وانتشار الفقر وضيق المساكن وظهور الشقق الإسمنتية الصندوقية، اكتفى الإنسان بالورد الصناعي، الورد الميت، الخالي من الرائحة والحياة. ووصل الأمر بإنسان العصر الحديث إلى الجهل حتى بأسماء اشهر أنواع الورد كالبنفسج. لقد عد الباحث أسماء أربعمائة وردة ، لكن لم يبق منها سوى إحدى وعشرين لا يزال لها حضور يومي مع الناس.