الطيب تيزيني: بدأت موذناً وإماماً للمصلين ثم قرأت «ديكارت أبو الفلسفة الحديثة»

المفكر السوري لـ الشرق الاوسط : خياري النهضوي متضامن مع خيارات النهضة التي تحققت في أواخر القرن 12

TT

> هل ترى أن مشروعك قد نال حظه من الفهم والتقدير؟

ـ ما قدمته لم يُقرأ، بمعنى انه لم يُقرأ قراءة تأسيسية نصية فاعلة، ومع ذلك حاولت أن أصنع من الرذيلة فضيلة. أحاول أن أسجل كيف يفكر الزملاء، وهل يدخل هذا في تعددية قرائية أم أتى على سبيل التخاطب الفكري العمومي. وظني أن عملية القدح العقلي التهبت لدينا جميعا.

> ما هي أهدافك، بعد اختيارك للمشروع النهضوي بدلا من المشروع الثوري؟

ـ الخيارات في التاريخ تختلف وتتغير وفق واقع الحال. ليس لأن الباحث هو الذي رأى أن الواقع العربي يتغير الآن، بل ربما لأن العالم بأجمعه لم يعد يحتمل مشروعا في الثورة. لقد بدأنا التغيير بالفعل، لهذا أرى أن خياري النهضوي متضامن مع خيارات النهضة التي تحققت في أواخر القرن 12، هو الأجدى الآن. ولذلك كثفت قراءاتي منذ سنين باتجاه إعادة قراءة النهضة العربية والاوروبية. فقد استمدت أوروبا نهضتها من التراث العربي. وأجده أي المشروع النهضوي، هو المشروع العمومي الضامن للجميع. إنه مشروع أمة تستباح الآن ـ بالمعنى السياسي الشائع ـ وربما الشعوب العربية هي المستباحة.

فقد تحدثت عن نظام أمني رفع شعاره الشهير «يجب أن يفسد من لم يفسد بعد» بحيث يصبح الجميع ملوثين، ومدانين وجاهزين تحت الطلب، المجتمع برمته خصم لهذا النظام، بعد ان تم تحويله إلى أداة أو إلى قطيع. وقد وضعت يدي على فكرة الدولة الأمنية التي تجعل الجميع خاضعين لعملية اعادة انتاج الفساد والتخلف وتأبيده في هذا العالم.

> الى أي مدى يستطيع المشروع النهضوي أن يواجه أو يحتضن المتغيرات المتوالية في العالم العربي وأن يواجه التيارات المتعددة في المنطقة؟

ـ ليس بالضرورة أن ينجح مشروع النهضة، خاصة أن العالم الآن يعيش حالة من الاضطراب والتدمير. لكن تبقى هناك فكرة نراهن عليها، ومفادها يقول: طالما أن التاريخ لا يمكن أن يغلق على الاطلاق، اذن البنية ستبقى ابدا مفتوحة. ولكن كيف سنحافظ عليها مفتوحة؟ خاصة أن الثقافة لا تتحرك في خواء، لذا يجب أن نتحرك اجتماعيا وسياسيا... فالثالوث الاجتماعي والثقافي والسياسي هو ما نسعى الى تحقيقه، وأنا أعمل في هذه الحقول الثلاثة في سوريا وانشط بشكل واضح في العمل السياسي، أتظاهر وأعتصم. وقد كتبت للنظام السوري بعد سقوط بغداد أول بيان بعنوان «سارعوا وافتحوا أنتم قبل أن يفتح الغزاة».

> هل يمكن أن تكون هناك ديموقراطية سياسية بدون تأسيس ثقافة ديموقراطية؟

ـ قدمت تعريفا للثقافة والمثقف، وهي أن المثقف فاعل، والفاعل مفكر. ومن ثم، فان القطيعة بين الفعل والنظام غائبة أو قائمة على التجاهل. فالمشروع النهضوي جديد وقديم، قديم لأن الفكر العربي أصبح خارج التاريخ، فكراً يلوك نفسه، في بنية أصبحت مغلقة وأزلية، علينا ان نقرأ تاريخنا ونستنير به. وهو مشروع جديد بجدة المشكلات التي بدأت تفصح عن نفسها في عصر العولمة.

> هل الاشتراكية هي المآل لنا أو المخرج مما نحن فيه الآن؟

ـ الرأسمالية أنتجت مقولة تسيطر على العالم الآن، وهي «انها السوق الكونية السلعية الواحدة». وهي مقولة تقتل الإنسان وترفع قيمة الأشياء، ولكن كيف نتصدى لهذا الآن؟ انه سؤال وجودي، ولم يعد خيارا سياسيا. لعلنا في طور البحث عن مصطلح «الاشتراكية» التي لم تعد خيارا سياسيا، وانما أصبحت الطريقة الوحيدة للحفاظ على وجودنا في ظل أسئلة سياسية مطروحة.

> ما هو تصورك الشخصي في التعاطي مع المسألة الدينية؟

ـ عشت في بيئة متوسطة بالمعنى السوسيولوجي، في طبقة وسطى، كانت تشرف على ما حولها وتسعى الى التغيير والعمل من أجله. فقد نشأت وهناك مكتبتان في منزلي، مكتبة صوفية لاهوتية دينية وأخرى علمانية حديثة. الأولى كانت لوالدي والثانية لأخي الأكبر، كلاهما كان يتلاقى مع الآخر ومع الآخرين بنوع من الاحتواء، فنشأت على هذا القدر من التعددية، واكتشفت أن العالم لا يستطيع السير إلا على قدمين وربما أكثر. وهذا ما حفزني على قراءة القرآن الكريم، قراءة مستنيرة، مع مجموعة من التفاسير له، وكذلك قراءة ديكارت وماركس وتولستوي وغيرهم، في سن مبكرة. وأنشأت مكتبة ثالثة بين الوالد والأخ، فقد حاولت الدمج بين الاتجاهين: العقلانية النقدية والديموقراطية.

واستمرت الحياة الى أن تركت سورية وغادرت إلى تركيا، ثم انجلترا فألمانيا، وحينها أدركت ان الدراسة هي تحديد الخيار.

لقد عملت كثيرا حتى أطلق علي اسم «منتج الأفكار». وقياسا على الفكر اللاهوتي، كنت أعمل 6 ايام في الأسبوع. ففي الأيام الستة أعمل كل يوم 16 ساعة، ومن ثم استطعت أن أنتج ما أسميته «تراكما معرفيا». أي أنني أنتجت ما أنتجت، ثم بدأت أختار الاصلح بالنسبة لي في السياسة والثقافة والدين. لقد عشت مرحلة من التدين، وبدأت حياتي مؤذنا، وكان والدي يفخر بي. وعشت الحياة الدينية وكنت اماما للمصلين، وبعدها بدأت بقراءة كتاب للأستاذ المصري أحمد الحاج «ديكارت أبو الفلسفة الحديثة» يتحدث عن العقلانية والضبابية، وكونت تصورات أولية لطفل يسعى للمعرفة.

> ماذا عن مستقبل مشروعك النهضوي؟

ـ اذا لم ننجز ما علينا أن ننجزه الآن، فلن ننجزه أبدا. انطلقت في ذلك من التغيرات البنيوية التي بدأت تلحق بالزمان والمكان. وقلت لنفسي «لقد أصبحت في الزاوية الاخيرة، فان لم تفعل فانك خارج من هذه البنية عموما».

لذلك حاولت تكثيف العمل في اتجاه هذا المشروع الذي يمتد من الأقصى الى الأقصى، بحيث يضم كافة الاطياف السياسية والاجتماعية والثقافية، ضمن شيء واحد وهو القبول بالتعددية، وعملية البناء النهضوي، وأرى أن ذلك متاح. وكل يوم أتساءل: هل ستتاح لي الفرصة فعلا لانجاز الأجزاء الستة المتبقية بعد أن نشأت هذه الإشكالية العظمى في حياتي. هل ستتاح لي القدرة الذاتية على الالتفات إلى الانتاج المعرفي، ولكنني بين حين وحين آخر أقول لم لا؟!

وقد عقدت العزم على أن أكمل مشروعي اللغوي المشروط بالأصل بما ينتجه الآخرون وما تحقق، لذا اكتشفت في نفسي مصوغا معرفيا وتاريخيا، ووجدت أنه ينبغي علي أن أبقى منخرطا في العمل. ولكنني نظرت حولي باحثا عن أنماط العمل التي تسعف في تحقيق هذه الافكار الكبرى التي أسعى وراءها. ففي زيارة سريعة الى تونس التقيت أصدقائي واتفقنا على تأسيس جمعية قد نطلق عليها «جمعية العقلانية والتنوير العربي».

> هل هناك احتمالات لتكوين مثل هذه الحركات الجديدة على غرار التي بدأت في عصر النهضة؟

ـ إنني أتحرك بين القنوط والأمل، خصوصا حينما أرتطم بالنظام الامني الذي تقوم استراتيجيته على ابتلاع البشر وتحويلهم إلى سلعة، ووصلت لفكرة جدلية، وهي أن استنبط نماذج من الماضي. وفعلا وجدت هذا النموذج الجميل في «يوسف العظمة» الذي تحدى بمفرده دولة عظمى، حينما قرر بشيء من الوعي، ألا يسمح لفرنسا بأكثر من دخول عسكري إلى سورية، فكأنه ميز بين الانتصار العسكري والتاريخي، فقد انتصرت فرنسا عسكريا وليس تاريخيا. هذا هو المشروع الجديد «مشروع النهضة والتنمية» والانتصار التاريخي.

وهو مشروط بحتميات، مشروطة بدورها بثلاثة عوامل كبرى وهي: الارادة وأقصد بها ارادة الناس، الوعي بالتاريخ، والفعل التاريخي. هذا الثالوث أعتبره ثالوثا مقدسا قد يؤسس لحالة أو أخرى. النظام الأمني العربي، يستلهم الآن، شعار معسكر اعتقال نازي في ألمانيا وهو «كل لنفسه والله مع الجميع». هذا الإعلان الخطير الذي يريدون تطبيقه علينا، ومن ثم لا ينبغي أن تتكون حالة بين اثنين لأنه سيصعب الاستفراد بهما. والمدهش أن هذا النظام الأمني ينطلق من بعض الفلسفات المعاصرة منها التفكيكية والبحث عن هويات ما قبل الوطنية: مذهبية، طائفية.. وهكذا نجد البحر أمامنا والبحر وراءنا ايضا، وتعددت البحار.