السويد تستقبل سارة سيز التي تجعل الأشياء اليومية كونا من الرغبات

فنانة أميركية مهووسة بالمتعة

TT

بالنسبة لسارة سيز، الفنانة الاميركية التي تعرض اعمالها هذه الأيام في «كونست هال»، وهي كبرى قاعات مدينة مالمو في جنوب السويد، فإن كل شيء تبصره العين وتلمسه اليد يصلح لان يكون «مادة خاماً»، يسهم خيالها الخصب في صياغته عملا فنياً. من وجهة نظرها، لا شيء يمكن استثناؤه من هذه الفكرة، وبالاخص تلك الأشياء التي يستعملها الانسان في حياته اليومية، أي الأشياء القريبة منه الى درجة أنه يكاد لا يراها.

شغف الفنانة سارة سيز بالمواد الجاهزة، جعل النقاد يطلقون عليها نحاتة أشياء كل يوم، في اشارة منهم للجوئها المتكرر الى استعمال الأغراض المنزلية، وهو استعمال غالبا ما يتسم بالدهشة والبراءة والانبهار، كما لو أن سيز ترى تلك الاشياء لاول مرة، فتضعها في مكان لا تتوقعه العين، فيكون عملها النحتي أشبه بالخزانة السحرية التي تختبئ فيها آلاف الأشياء الصغيرة. وإذا ما كانت تلك الأشياء قد انقطعت عن سيرتها الأولى وهي سيرة استعمال يومي، فإن الفنانة بدأب خرافي تكسب تلك الأشياء سيرة المادة الفنية القادمة من عدم شاسع لا حدود له. سيز هذه تجر الأشياء الى كونها الذي تشيده بيدي نساج، وعيني راء، ومخيلة شاعر. إنها تصف ما لم يقع بعد من حوادث، ليكون عملها النحتي نبوءة شكلية متماسكة تقف في مواجهة تفتت الحكايات القصيرة التي ينطوي عليها وجود الأشياء اليومية.

منحوتات سيز عبارة عن تفاصيل، وكل تفصيل تنتج عنه تفاصيل، هي ليست من صلبه فينزلق النظر من امكانية أن يكون موجودا بصفته شاهدا الى غيابه التأملي الشفاف. في عملها النصبي «الزاوية المكيدة»، الذي يحتل مكانا في الشارع الخمسين من نيويورك، هناك نوع من الخديعة، هو ما يجعل المتلقي يتوقع أن هناك شيئا ما يحدث تحت الارض بطريقة خفية. لذلك فإنه يسترسل في استخراج خيوط الحبكة المسرحية التي وضعتها الفنانة مثل وهم بين يديه. تلك الزاوية هي الأخرى عبارة عن خزانة مغلقة على اسرارها. وكما أرى فإن ذلك العمل في امكانه أن يخدع مشاهدا لم يتعرف من قبل على سيز، أما من يعرفها جيدا فقد يفاجأ بحساسية انتقائية، ليست هي من صفات تلك الفنانة المهووسة بتراكم الأشياء المضطربة، غير أن سارة سيز قبل هذا العمل النصبي وبعده هي نحاتة لا ترى من عملها سوى بعده التأملي. أشياؤها الصغيرة لا تمثل أي تحد للشكل الكلي الذي تريد انشاءه، وهو شكل يتخذ هيئة نصبية في النهاية. هذه الفنانة هي اليوم واحدة من اهم صناع فكر ما بعد الحداثة، ويعد احتفاء مؤسسة كارتير في باريس بها تكريسا للموقع اللافت الذي احتلته تجربتها الفنية في قاعات ومتاحف بوسطن وشيكاغو ونيويورك. يكفيها لكي تكون موجودة أنها تعيدنا الى عصر المتعة.

تذكرنا سارة سيز بسلفها النحات الاميركي الكسندر كالدر، فهي مثله تسعى الى تحريك هواء المكان الذي تعرض فيه أعمالها بخفة أفكارها. الاثنان يلعبان، حين يصران على ازاحة السكون ويحثان الاشياء على ان تستجيب لحركة، هي في حقيقتها نوع من التماهي مع لوعة روحية دفينة. بساطة كالدر تكاد تختفي وسط زحمة المواد البراقة والانيقة والملونة التي تنشئ بها سارة أعمالها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفنانة على خلاف سلفها تسعى من خلال أعمالها النحتية الى خلق توازن بين تلك الأعمال وبين فضاء القاعة التي تستضيفها، وهو ما لم يكن كالدر يهتم به على الاطلاق. كان لذلك الفنان المرح فضاؤه الشخصي الذي تحلق فيه كائناته التجريدية، اما منحوتات سيز، فإن تماسكها يكشف عن ذعر تواجهه وهي تقف في مواجهة فضاء غريب عليها، لذلك تسعى الفنانة قبل كل عرض الى دراسة جغرافية القاعة، من اجل أن يكون كل شيء في مكانه الصحيح. وقد تكون محقة في خوفها إذا ما عرفنا أن خزانتها مزدحمة بما يمكن أن تضيق به أكبر القاعات، ولأنها تعرف أن تأثير مفرداتها سريع الزوال فإنها تسعى الى التفاعل مع المحيط المعماري من خلال الالتحام به وتدمير إلهامه السكوني.