المبدع العربي لماذا يفضل الموت على اعتزال الكتابة؟

يعترفون أنهم يملكون الكثير من مبررات الانسحاب

TT

هل يملك المبدع العربي شجاعة اتخاذ قرار باعتزال الكتابة، أم أن العقلية العربية تتعامل مع خصوبة الإبداع مثل الخصوبة الجنسية، وبالتالي يصبح إعلان الاعتزال لنضوب الموهبة أمرا يمس الكاتب في كرامته؟ وهل يفضل الكاتب أن يقع في فخ التكرار على أن يصبح موسوما في فحولته الإبداعية؟

اسئلة عديدة حول قضية اعتزال الكتابة يتم طرحها كل فترة، وتتكرر نماذجها: نجيب محفوظ اعتزل الكتابة عقب انتهائه من الثلاثية، لاعتقاده بأنه لن يقدم جديدا ثم عاد ليبدع، وقبله اعتزل ميخائيل نعيمة عندما خشي أن يلحق التقدم في السن الخرف بكتابته، وقبل أكثر من عام أعلن ماركيز اعتزال الكتابة، رغم اعترافه بأنه يمكن أن يقدم لقارئه المزيد، إلا انه اشفق عليه من التكرار. هؤلاء كانوا أسعد حظا من همنغواي الذي انتحر بعد أن اعتزله الإبداع، ففضل الموت على النضوب. إذا كان الكاتب الغربي يملك سببين أساسيين لاعتزال الكتابة، هما النضوب أو الرغبة في الهرب من التكرار، فإن الكاتب العربي يملك عشرات الأسباب الإضافية، منها: المناخ الطارد للإبداع، عدم الاعتراف بقيمة الكتابة، الغبن الذي يتعرض له الكتاب مقارنة بسلع أخرى. الأسباب عديدة، لكنها لم تتسبب في اعتزال المبدعين الذين يعيشون حالة خوف مزمنة من العجز، رغم أن التجارب السابقة تشير إلى أن كثيرين يعانونه ولا يعترفون بذلك. عموما يبدو أن هناك من سيتمسكون بالكتابة حتى لو بدت هي غير مصرة على وجودهم في عالمها.

حسن طلب: الكتابة أو الانتحار

* اعتزال الكتابة بالنسبة لإنسان قضى عمره فيها يعتبر اعتزالا للحياة نفسها، كلمات يختزل بها الشاعر حسن طلب الحالة كلها، لحظة صمت معبرة، ثم يستكمل: «الكتابة بالنسبة لي شخصيا ليست عملا يمكن أن أؤديه أو أمتنع عنه، إنها مسألة وجود، لذلك أعتقد أن التوقف عنها أمر غير متاح. إنه أمر غير مطروح لأي كاتب، إلا إذا قرر أن ينتحر». لكن الفكرة واردة بدليل أن هناك كتابا امتلكوا جرأة إعلان إقلاعهم عنها، لأنهم لم يعودوا يملكون جديدا، تعقيب يعلق عليه بقوله: «عندما لا أجد ما أكتبه، أو أفاجأ بأنني وقعت في فخ التكرار، فالحل أن أتوقف عن الكتابة لا أن أعتزل. وقد حدث هذا معي من قبل مرات عديدة، توقفت وكانت لدي فرصة أن أراجع نفسي وأقرأ أو أكتب كتابات فاشلة. هذه هى المساحة التي يمكن للمبدع أن يتحرك ضمنها، لأن الكتابة وجود، وليست معطى ثابتا، لذلك أعتقد أن اعتزال الكتابة هو اعتزال للحياة بأكملها»، غير أن قرار الاعتزال ربما يكون مجرد حيلة نفسية من المبدع لكى يثبت، ولو حتى لنفسه، أن قرار الكتابة أو الامتناع عنها بيده، يضيف حسن طلب: «أعتقد أن المبدع الذي يتخذ قرارا من هذا النوع يطلق صرخة احتجاج على هجران الإبداع له. وكأن المبدع بهذا يتدلل على إبداعه»، لكن القطيعة عادة لا تكون نهائية حتى لو طالت: «قبل عقود طويلة توقف الشاعر بول فاليري عن الكتابة، وظل معتزلا لمدة 15 عاما، كتب خلالها كثيرا عن اعتزاله حتى جاءته واحدة من اهم قصائده، وهي «المقبرة الحجرية» فأعادته إلى الشعر». الانقطاع إذن هو الذي يقود المبدع إلى التفكير في الاعتزال، فهل تصبح احتمالات تعرض الشاعر لهذه الحالة اكبر من نظيرتها لدى الروائي أو القاص؟ سؤال يجيب عليه حسن طلب بقوله: «بالفعل يعتبر الشاعر أكثر عرضة لهذه الحالة، لأن اعتماد الشاعر على الوحي أكثر، ربما يكون الروائي في حاجة للإلهام، لكن هندسة الرواية أو القصة القصيرة تعتمد بشكل أوضح على الجهد العقلي. وفي عمل الروائي والقاص يظهر التصميم والإرادة بدرجة أكبر، وهو ما لا يتحقق للشاعر بنفس الدرجة، فمهما توفر له من تصميم، يظل الإلهام عاملا أساسيا، لكنه بالتأكيد ليس وحيدا». متى تقرر أنت شخصيا أن تعتزل الكتابة؟ سؤال يرد عليه حسن طلب بسرعة: «لا أتخيل أنني يمكن أن أتخذ قرارا كهذا، فعندما أقارن فترات التوقف، التي سبق أن أشرت إليها بفترات الخصوبة الإبداعية، أشعر بمدى الجدب الذي كنت أعاني منه».

سيد البحراوي: نعم للتوقف لا للاعتزال

* بعد فترة قليلة من انتهاء حفل التوقيع الذي نظمته «دار آفاق» لأحدث أعماله الإبداعية «هضاب ووديان»، كان السؤال غريبا على الدكتور سيد البحراوي: هل يمكن أن تتخذ قرارا باعتزال الكتابة؟ اجابته مضت فى اتجاهين: ابداعي ونقدي: «بالنسبة للمبدع يمكن أن تستنفد التجربة في أعمال سابقة، هنا سيكون عليه أن يتوقف تلقائيا، على أن يتم ذلك بدون قرار. ففي هذه الحالة يكون على الكاتب أن يمضي في أحد اتجاهين، أن يتوقف عن الكتابة أو أن يواصل ويكرر نفسه، وهو ما حدث مع البعض، حيث أتت بعض أعمالهم تكرارا لكتابات سابقة لهم، بينما اختار مبدع مثل سليمان فياض أن يتوقف». يوافق البحراوي إذن على فكرة التوقف، لكن بدون قرار اعتزال، وبغير اعلان يميل أكثر للدعائية، لكن في حياة الدكتور سيد البحراوي شقا آخر يتعلق بالناقد، يجيب عنه: «بالنسبة للناقد، يختلف الأمر، لأن النقد مجهود ذهني يحتاج الى متابعة وقراءات وربما يجبر المرض أو السن الناقد على التوقف». الناقد أسعد حالا في هذه الجزئية من المبدع الذي يحتاج إلى قدر كبير من الصدق والجرأة فى مواجهة حالة كتلك: «لو شعرت بأنني لم أعد قادرا على الكتابة سأتوقف من دون أن يكون قرار التوقف نهائيا، فربما أشعر بعد عشر سنوات مثلا بأنني أرغب كتابة عمل أشعر بأنه يلح علي وأنه نجا من فخ التكرار». لكن هل يملك المبدع العربي بصفة عامة الجرأة الكافية لاتخاذ قرار كهذا؟ يجيب: «يحدث هذا بدون إعلان، فربما يلوذ مبدع ما بالصمت، ويتوقف عن الكتابة، لا لأن موهبته نضبت، فهذا سبب اساسي لكنه ليس وحيدا، فقد يكون المناخ الذي يعيش فيه المبدع لا يساعده على الاستمرار، كأن يكون المجتمع قاهرا للإبداع أو غير مقدر له». هل واجهت أنت شخصيا ظروفا قاهرة؟ سؤال يرد عليه البحراوي بالإيجاب: «عندما أكتب عملا جريئا ويجمع الناشرون على رفضه، فإن هذا محبط، أول رواياتي «ليل مدريد» كادت تجعلنى اعتزل الكتابة، فلمدة ثلاث أو أربع سنوات تلت كتابتها ظلت مرفوضة من ناشرين مصريين وعرب حتى نشرت فى النهاية، ولو لم تنشر كان يمكن ألا أواصل في مجال الكتابة». حدث هذا للدكتور سيد البحراوي، الذي دخل حقل الإبداع وهو ناقد معروف، فما هو الحال بالنسبة لآخرين أقل شهرة؟ ربما يعتزلون فى صمت ويتوجهون لأعمال أخرى أكثر جدوى، أو يحرقون كتبهم مثلما يشير الدكتور البحراوي.

أشرف الخمايسي وفضيلة تربية الأغنام

* كلمات البحراوي الأخيرة تذكر بأديب شاب، ينتمى إلى محافظة سوهاج بصعيد مصر، اسمه أشرف الخمايسي، كانت جريدة «أخبار الأدب» القاهرية، قد اكتشفته في مسابقة نظمتها للرواية قبل سنوات، فاز فيها وأصبح اسمه حاضرا على الساحة الثقافية، وكتب أعمالا أخرى حظيت بإعجاب الكثيرين، لكنه فجأة أخذ قرارا باعتزال الكتابة وعاد إلى بلدته، مفضلا الدخول في مشاريع صغيرة قد تنجح أو لا تنجح مثل تربية الأغنام! واختفى الخمايسي، الذي اعتزل مبكرا وأصبح الوصول إليه بالغ الصعوبة، توقفه لم يكن ناتجا عن ضعف إبداعي مفاجئ لأن مشروعاته الأدبية التي خطط لها كانت متعددة. لم يقل لأحد لماذا فعل ذلك، لكن اختياره البديل يمكن أن يقدم تفسيرا محتملا، فالكتابة لم تعد تغني ولا تسمن من جوع، وهو ما يمكن أن تحققه الأغنام!

أحمد الشيخ: بعد موتي ستكون لدي أفكار لم تكتب

* تلقى الروائي أحمد الشيخ السؤال بضحكة، رغم أنه لم يكن يعرف أنه جزء من تحقيق صحافي: متى تقرر الاعتزال؟ من دون سياق يمهد الأمر له يتحول الحوار إلى نوع من الاستفزاز، لكن الشيخ رد بهدوء: «ليست لدى نية الاعتزال، أما إذا جاءت مرحلة التوقف وحدها فهذا شيء آخر». غير أنه يعترف بعدها بثوان أن فكرة الاعتزال خطرت على باله من قبل، بل وحاول حتى أن ينفذها: «جربت الاعتزال عدة مرات، لا لأن أفكاري نضبت، بل لأن هناك تنغيصا وافتعال مشاكل باستمرار، وقتها كنت اتساءل لماذا أتعامل مع الإبداع بهذه الجدية؟ حاولت أن اعتزل أكثر من مرة لكنني فشلت، عقلي يقول لي باستمرار: لا داعى للكتابة، لأن هناك مساحة غبن شديدة، وتجاهل مبالغ فيه، وكائنات تظهر وتتحقق اعتمادا على قدرات تسويقية لا إبداعية. كلها أمور تستدعي الإحباط، لكنني اكتشفت أنني لا استطيع اعتزال الكتابة إلا مرغما نتيجة المرض أو أي عائق ليس من اختياري». لكن ماذا لو نضب الابداع؟ سؤال يرد عليه: «إنها عاهة بشعة جدا اتمنى الا تصيب أي مبدع، لأنها تفقده دوره في الحياة، وتشبه فقدان شخص ما لقدرته على التنفس». إنها حالة أشبه بالشلل الذي يصيب البشر حسب توصيف الشيخ، لكن ألا يستدعي عدم امتلاك المبدع لجديد يقدمه أن يكون صادقا مع نفسه وقرائه؟ يجيب: «من يشعر بهذا وتكون لديه جرأة الاعتراف يصبح ذا مصداقية عالية بالفعل، لكن المشكلة هي أن هناك من لا يملك أي موهبة ويعتقد أنه يملك الكثير. ماركيز كان صادقا مع نفسه لأنه يعيش في مناخ مغاير، وصل إلى القمة وكتب أعمالا من الصعب ألا يقرأها أي إنسان، وبالتالي فهو يملك شجاعة الاعتراف بأنه لا يرغب في تكرار نفسه». وهل تمتلك أنت شخصيا شجاعة اتخاذ قرار مشابه إذا وجدت أن أعمالك ستكرر نفسها؟ سؤال يجيب عنه قائلا: «بأمانة شديدة، أشعر دائما بأن لدى المزيد مما أريد أن أقدمه، وأحس بأنني عندما أرحل عن هذا العالم ستكون لدي أفكار لم تكتب، كانت تحتاج إلى عشرين عاما إضافية، لكن هذا لا يمنع أنني سأكون صريحا مع قرائي وأتوقف إذا شعرت بأنني أكرر نفسي».