رحيل جون ـ بيار فيرنانت آخر المتخصصين الكبار في الحضارة الإغريقية

حين تفقد فرنسا مفكريها الهامشيين

TT

في فترات غير متباعدة، فقدت فرنسا أربعة من أهم مثقفيها فيدال ناكي وديريدا وبيار بورديو وفيرنانت، ومع هؤلاء اختفت صورة المثقف الفرنسي. أي صورة الباحث الكبير، الذي يوجد حوله إجماع، ويخاطر بإظهار التزامه أمام الجمهور، لكن بعيدا عن أن يكون مجرد حيوان ميديوي (الميديا). لقد رحل جون ـ بيار فيرنانت، أحد أبرز المتخصصين في الثقافة والتفكير الإغريقيين في العالم بداية السنة الحالية، وبذلك تكون فرنسا قد فقدت آخر مفكريها الملتزمين والجادين في آنٍ معاً.

غادرنا منذ فترة قصيرة جون ـ بيار فيرنانت (1914 ـ 2007)، الذي وصفه صديقه وآخر العمالقة الأحياء كلود ليفي شتروس Claude Levi-Strauss بأنه «أخ له في الميثولوجيا». هذا المثقف، مثل الآخرين، ما كان له أن يسلم من شرك الانتماء إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، لكن وعيه الحاد بضرورة الاستقلالية والابتعاد عن سجن الآيديولوجيا، جعله ينسحب منه في وقت مبكر جدا. لقد كان مناضلا كبيرا في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، كما أنه ناضل بقوة من أجل استقلال الجزائر وناضل قبلها ضدّ التعذيب في الجزائر، حيث وقع على «بيان 121» الشهير.

أدرج فيرنانت عمله، ومنذ المؤلف الأول، في إطار البنوة الفكرية للباحث الهيليني لويس جيرنيت Louis Gernet وأيضا العالم النفسي إنياس مييرسون Ignace Meyerson، وهما من مُمهِّدي السبيل في موضوع الأنثروبولوجيا وعلم النفس التاريخي.

وهو يرى أن الأساطير الإغريقية لا يمكن ربطها بقضية «معجزة» فوق طبيعية أو سحرية، لكن يتوجب فهمها على أنها التعبير عن مرحلة وعن ثقافة متفردة، تفتحت فيها الفنون والحرية السياسية ومبادئ عقلانية فلسفية، التي ستتحول في ما بعد إلى باراديغم أساسي للتفكير الغربي.

في كتابه «الفرد والموت والحب: الذات والآخر في اليونان القديمة» (1989) يحاول فيرنانت الإمساك والإدراك بولادة وَعْي فردي متضامن مع قوانين المدينة، وهو وعيٌ لا يزال، من هذا المنطلق، عصيّاً على رؤيتنا الراهنة للنزعة الفردية المعاصرة.

الهامشية والفلسفة تسيران يداً بيد

يعتبر فيرنانت من بين مجموعة من المؤرخين والفلاسفة الذين يرومون إلى زعزعة الحدود الموجودة ما بين التخصصات المختلفة. إنه يصبو إلى ما يشبه علما اجتماعيا شاملا ـ على الرغم من أنه يصعب وضعه في خانة معينة، يقول: «لم أحظ بأي تكوين تاريخي، ولست حاصلا على التبريز في التاريخ، ولا من الآداب الكلاسيكية. أنا حصلت على تكوين فلسفي، إذن فأنا أشدد على أني لست مؤرخاً، أي أني لم أتبع مسارا عاديا كي أكون منذورا للتاريخ، ولا كي أكون مدرِّسا للأدب الإغريقي. أنا أُوجَد على جَنب، هامشيا بعض الشيء، أي فيلسوفا، لأن الهامشية والفلسفة تسيران يدا في يد. ثم اقتربت، شيئا فشيئا، من المؤرخين لأني أنشأت تخصصا، في فرنسا (كان موجودا في أمكنة أخرى من العالم، عدا فرنسا)، يُدعى «الأنثروبولوجيا التاريخية للعالم اليوناني القديم»، وهو ليس فقط دراسة فيلولوجية ولا علم الكتابات المنقوشة ولا علم الآثار، لكنه انثروبولوجيا اليونان».

من مؤلفاته المهمة التي أحدثت تأثيرا بالغا في دراسة الظاهرة الإغريقية نجد «الفرد، الموت والحب»، «الإنسان الإغريقي»، «الكون، الآلهة البشر، محكيات إغريقية عن الأصول»، «مصادر التفكير الإغريقي»، «الأساطير الإغريقية»، «أدويب وأساطيره»، ثم «باندورا، المرأة الأولى».

مقاربته تعتمد على فهم العالم من وجهة نظر سوسيولوجية ـ انطلاقا من الأسطورة. ويتمتع بقدرة لا تُضاهى على تبسيط بالغ، جعله ينجح في إلغاء الكثير من الحدود وسمح له بإيصال المعرفة الواسعة لجمهور متلهف للتعرف على موضوع كان يجهله ويراه بعيدا عنه. هذا التبسيط العالِمُ جعله يحظى بشعبية كبيرة، ويصبح سفيرا للهيلينية الفرنسية إلى الخارج. لقد كان حريصا جدا على بقاء العالَم الهيليني وكان يريد أن يظل صداه يصدح اليوم.

كتابه الأخير «باندورا المرأة الأولى»، الذي كان في البدء عبارة عن محاضرة ألقاها في المكتبة الوطنية الفرنسية، PANDORA, la première femme,، يعتبر أول كتاب مكرّس لبناء مكانة المرأة في العالم في اليونان القديمة. هو ربما بهذه الطريقة يعتبر من أكبر وجوه الإنتلجينسيا الفرنسية.

التزام شامل: ثقافي فكري وسياسي

* مواقفه من حرب الجزائر جعلت منه مثقفا من طراز آمَن بالتزام المثقف بالمفهوم الماركسي. ومواقفه السياسية تعدّت مجرد النضال ضد النازية ورفض حرب فرنسا الكولونيالية، إذْ انه ارتبط بصداقات مع مفكرين صدحوا بالحق العربي، وحاولوا تقديم صورة مشرفة عن الإسلام، وبالخصوص منهم فيدال ناكي وكذا مكسيم رودنسون. هنا يتحدث عن بعض نضالاته ومواقفه: «لقد عشت موقف فرنسا من الغزو الألماني لتشيكوسلوفاكيا مثل خيانة إزاء التشيكيين. بعد الحرب تمنيت أن تحظى تشيكوسلوفاكيا بنظام اجتماعي ديمقراطي ومساواتي في آن. ثم جاءت الخيبة وانهيار ربيع براغ وجاء الشعور الحاد بمسؤوليتي إزاء المثقفين التشيكيين المقموعين والملقى بهم في الأرض مثل كنّاسين. ثم اتفقت، مع (الفيلسوف) ديريدا، على فعل شيء من أجلهم. أعتقد أن النص الصغير والمكثف يكشف كلّ هذا، مصحوبا بالانفعال حين أقول بأني لم أشعر من قبل بهذا الرضا. في هذه اللحظة تصالحتُ مع جزء من ذاتي».

احترام الآخر بناء للذات

ويكتب فيرنانت: «كي يكون المرءُ نفسَهُ، يجب عليه أن يلقي بنفسه في ما هو أجنبي، أو غريب، وأن يتمدد فيما هو أجنبي ومن خلاله. إن البقاء سجينَ هويته هو الضياعُ والتوقف عن الكينونة. إننا نعرف أنفسنا ونبنيها من خلال التواصل والتبادل والمتاجرة مع الآخر. إن الإنسان هو قنطرةٌ بين ضفاف الذات والآخر». (من كتاب: عبور الحدود La traversée des frontières)، وهو كتاب نشر في سنة 2004. ويعتبر كتابا أوتوبيوغرافيا بامتياز، حيث يفسر فيه الحدود التي يراها موجودة ما بين «موضوعية العالِم المتحفِّظة والرصينة وبين الالتزام الملتهب للمناضل»، والكتاب تلخيصٌ لحياة حافلة وبطولية تُخاضُ فيها معارك باسم الحرية والحقيقة».

ولأن قراءة الماضي فهمٌ دائم للحاضر واستشفاف للقادم الغامض، يقول: «في القصر، وفي المدينة، عند جذع شجرة زيتون موجودة في قلب المنزل في أرض إيثاكا، في الحديقة، في الريف، كل هذه الخُضرة التي تم تعهدها بشكل متواصل، هذا هو ما يخلق الصلة ما بين الماضي والحاضر. الأشجار التي زرعت في الماضي كبرت. ومثل شُهود حقيقيين فهي تُسجّل الاستمرارية ما بين الزمن الذي كان فيه عوليس طفلا صغيرا وبين الزمن، ويتعلق الأمر باللحظة الراهنة، الذي يوجد فيه على عتبة الشيخوخة. حين نستمتع إلى هذه القصة أَلاَ نقوم بنفس الشيء، ألا نربط الماضي، ورحيل عوليس بحاضر عودته؟، إننا ننسج، معا، رحيلَه ولقاءه مع بينيلوب. إننا، بطريقةٍ مَا، ننسج الزمن الذي ألغته الذاكرة، في الوقت الذي ارتسم عبر السرد. لقد تم إلغاؤه وتمثيله لأن عوليس نفسه لم يتوقف عن أن يحتفظ في ذاكرته بذكرى عوليس في شبابه».

خاتمة صغيرة وتساؤل: مختلف الأوساط الثقافية أجمعت على أهمية الرجل وعلى قدر الخسارة. خسارة بالفعل لأن موضوع اشتغالاته كان موغلا في القدم، ولأن الجيل الحالي ما عاد يولي أهمية لدور اليونان الحاسم في غير ما موضوع. ماذا لو أننا جمعنا إسهامات العرب المسلمين في الموضوع وإسهامات هذا الرجل؟!.