القاموس الفلسطيني الجديد مصطلحات تنبذ «الديمقراطية» وتعانق «العصبية»

انعكاسات ثقافية لأزمة سياسية مستعصية

TT

الصراع السياسي الدامي بين الفصيلين الأساسيين في فلسطين، قد لا يكون سوى ترجمة لتغيرات جذرية في الأفكار والرؤى، والواجهة التي تعكس انحدراً في أنماط التحليل والتفكير والعلاقة بالآخر. مجرد رصد لبعض المصطلحات والألفاظ التي باتت شائعة بين السياسيين، كما بين الكتاب والصحافيين، تظهر ان القاموس يتغير، والألفاظ العلمانية في فلسطين بدأت تستبدل بأخرى تثير الذعر. وهو قاموس يتبناه المسؤولون في قمة الهرم وصولا إلى القواعد الشعبية، كل ذلك يترافق مع ضيق بالرأي المخالف يصل حد تكميم الأفواه. فأيهما يرفد الآخر، هل هي السياسة التي تصنع ثقافة الناس وذهنياتهم أم أن العكس هو الصحيح؟

في بداية الشهر الحالي، وفي الذكرى الثانية والأربعين لانطلاق الثورة الفلسطينية، استقبل مؤيدو حركة فتح زعيمهم محمود عباس (أبو مازن)، وهو يدخل إلى ساحة الاحتفالات المركزية بهذه المناسبة في مدينة رام الله، بهتاف غريب: «شيعة...شيعة». وعندما اعتلى أبو مازن منصة الحفل والقى الكلمة الرئيسية فيه، قاطعه مؤيدوه بنفس الهتاف: «شيعة.. شيعة» و«حماس شيعة». ولم يعجب هذا الهتاف الطائفي، والغريب عن تقاليد العمل السياسي الفلسطيني أبو مازن، الذي طلب من مؤيديه نبذ هذا الهتاف، ولكنهم واصلوا غير عابئين به. وعكس ذلك ملمحا ثقافيا لتداعيات الأزمة السياسية الطاحنة بين الفصيلين الكبيرين على الساحة الفلسطينية، وهما حركتا فتح وحماس، ونزعات طائفية لم يشهد لها الفلسطينيون مثيلا من قبل، حتى عندما كانت تحدث خلافات، يسوقها البعض على أساس مسيحي ـ إسلامي، لم يكن أي طرف ليجرؤ على الحديث عن الخلاف المعني كخلاف طائفي.

وتكرر الهتاف الطائفي الغريب، الذي أطلقه مؤيدو فتح في مناسبات لاحقة، رغم الموقف الرسمي المضاد من قيادة الحركة العلمانية لذلك.

ولكن في الانعكاسات الثقافية لما يجري على الساحة السياسية الفلسطينية، بدا كل شيء ممكنا، ولم تكن الهتافات الطائفية، التي تظهر لأول مرة على الأقل في تاريخ فلسطين المعاصر، هي الملمح الوحيد، فالأطراف المتصارعة، أخذت تضيق بالرأي الآخر، بشكل غير مسبوق أيضاً، ووجد ذلك ترجمته بالاعتداء على صحافيين ووسائل إعلام، من جهات توصف دائما بأنها مجهولة، ولكنها معروفة للجميع.

وجاءت هذه الاعتداءات، ضمن استهداف علني وحاد من قبل شخصيات فلسطينية للقنوات التلفزيونية العربية، فقد وصف أحد السياسيين المعروفين، الجزيرة بأنها قناة الأخوان المسلمين، وقلل من شأنها، ولم يفوت فرصة للنيل منها.

وشكت وسائل إعلام محلية، من تهديدات تلقتها من أحد الناطقين باسم حركة فتح، ووجدت حركة حماس ذلك فرصة للنيل مما أسمته «الفكر الظلامي»، الذي كما قالت «بات يسود لدى بعض المتحدثين الإعلاميين ومحاولتهم العمل على تكميم الأفواه وكبت الحريات، حتى وصل الأمر بهم إلى حد التهديد باتخاذ إجراءات ضد وسائل الإعلام وفق قول: إن لم تكن معي فأنت ضدي». ولجأت الحركة في خضم الصراع مع حركة فتح، إلى الهجوم على القيادي الفتحاوي عزام الأحمد، واتهمته بأنه «أساء إلى الذات الإلهية» في برنامج بثته «قناة المنار»، وطالبت بمحاسبته.

ولم تمض إلا أربعة أيام، حتى وجدت حركة حماس نفسها، ملاحقة بتهمة شبيهة، بعد أن بثت قناة «العربية»، برنامجا، عرضت فيه لشريط يتحدث فيه إسماعيل هنية، رئيس الوزراء الفلسطيني، يكرر فيه تقريبا ما نسب للاحمد. ومثلما فعلت حركة فتح مع قناة «الجزيرة»، شنت حماس هجوما لاذعا على قناة «العربية»، وقالت ان الشريط الذي تم بثه «مقطع ومجزوء» من حديث لهنية مع مستشاريه حول ما ورد على لسان الاحمد في قناة المنار. ولم تكتف حماس، بمطالبة قناة العربية بالاعتذار، بل أعلنت عن مقاطعتها، وطالبت المتحدثين باسمها الالتزام بهذا القرار.

وجاء الدور على حركة فتح، لتستنكر هذا الموقف، مثلما استنكرت حماس موقف فتح من «الجزيرة». والمفارقة أن بيان فتح حمل تقريبا نفس الألفاظ التي تضمنها بيان حماس. فقالت فتح أنها تدين «هذه الروح الظلامية التي تمارس ضد الإعلاميين ووسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية بأشكال متعددة، من قبل حركة حماس وحكومتها، التي فقدت اتزانها وتوازنها عبر التهديدات المجنونة الموجهة ضد قناة العربية».

واصبح واضحا أن الجميع بدا متورطا ومنجرا إلى ملامح ثقافية يحاول الكل التبرؤ منها، مثل «الطائفية» و«معاداة حرية الرأي»، و«مقاطعة وسائل الإعلام»، ولكن ما يمارس على ارض الواقع عكس ذلك تماما.

وادخل الصراع المحتدم بين الحركتين، مصطلحات لغوية، لم تكن مستخدمة في القاموس السياسي والثقافي والإعلامي، مثل مصطلح «الانقلابيون» الذي تطلقه حركة حماس، على فريق من حركة فتح يرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات التشريعية، التي حققت فيها الحركة نتائج باهرة. وعندما شن فريق من الصحافيين، حملة على مجلس إدارة نقابة الصحافيين، مطالبين بإجراء انتخابات في النقابة، اسموا ما اقدموا عليه بـ «انتفاضة» في حين رد عليهم نقيب الصحافيين واصفا إياهم بالانقلابيين. وأصبحت مصطلحات مثل: «انقلابيون» و«ظلاميون» و«شيعة» و«العصبية الحزبية» ألفاظاً متداولة للتراشق الإعلامي، ليس فقط بين السياسيين ولكن بين الكتاب على صفحات الصحف. وشاركت وسائل الإعلام الفلسطينية، بما فيها التلفزيون والإذاعة، باستخدام هذه الأسلحة اللغوية، والتسويق لها.

وغطى كل ذلك على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المتسارعة بشكل لا يمكن وصفه، لتهويد مدينة القدس، حيث يجري بناء كنيس يهودي بالقرب من الحرم القدسي الشريف، على ارض وقفية إسلامية، في منطقة حمام العين الواقعة غرب سوق القطانين، وهو احد اهم الاسواق المملوكية، في بلاد الشام. وربما الأخطر، هو هدم منازل وبنايات تعود لاكثر من ألف عام بالقرب من ساحة البراق (المبكى)، كانت سلطات الاحتلال وضعت يدها عليها بعد أيام من حرب يونيو 1967، حين هدمت حارة المغاربة على رؤوس سكانها، لتوسيع ساحة حائط المبكى، وخلال الأسبوع الفائت استكملت عملية الهدم، ودمرت ما تبقى من مبان أيوبية وفاطمية ومملوكية، تشكل بلا شك جزءا من ارث العمارة العربية والإسلامية.

ولم تكتسب البيانات التي صدرت من الأطراف الفلسطينية المتصارعة، التي تدعو العالم لحماية الأقصى، مصداقية كبيرة، ولم ينتبه إليها أحد، وسط ضجيج الاقتتال.

والغريب أن هذه البيانات عاتبت وسائل الإعلام، ومن بينها أهم قناتين إخباريتين في العالم العربي، كانت قد هوجمتا من قبل فلسطينيين، لعدم اهتمامهما بقضايا مصيرية، مثل تهويد القدس والاعتداء على الأقصى. ولكن ربما الأغرب، أن الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، يدمر ويضم بشكل يومي عشرات المواقع الأثرية بالغة الأهمية، التي لا تعلم عنها الأطراف المتصارعة أي شيء، لذلك لا تصدر حتى بيانات عنها، فتتم عملية التدمير بصمت مخجل، وحتى من دون توثيق.

ووسط تبادل الاتهامات، وإلصاق الصفات الطائفية والتكفيرية بسهولة، قدمت صحيفة أسبوعية تصدرها حركة الجهاد الإسلامي، اعتذارا عن مقال ظهر في أحد أعدادها بعنوان «الأعشى تراجع عن دخوله في الإسلام بعد حصوله على رشوة من أبي سفيان».

واعتبر بعض المتصيدين، في ظروف الاحتقان الشديدة، ان هذا المقال، مؤشر على «ميول شيعية» لدى الحركة الفلسطينية. ووزعت بيانات تربط بين ما نشر، وخطاب للسيد حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني انتقد فيه أبو سفيان، الذي وصفه منتقدو الصحيفة بـ«بالصحابي الجليل».

وتراجعت صحيفة «الاستقلال»، التي تصدر من غزة عما نشرته، وقدمت اعتذارا على صفحتها الأولى. وهو ما اعتبر مؤشرا على تقهقر حرية الرأي والتفكير، التي تمثلت بمقال ما كان ليثير أي انتقادات لو نشر في ظروف أخرى، إلا أن إصرار طرف سياسي على وصف الطرف السياسي الآخر، بنعت طائفي، جعل الجميع في حالة توجس.

وما يجري، جعل قسما من المثقفين يتنبهون، إلى خطورته، وكتب بعض الأدباء الشبان، معبرين عن ضيقهم، ومعلنين نيتهم الهجرة من البلاد.

واعتبر البعض أن ما يجري يعبر عن أزمة، ليست في فلسطين فقط ولكن في العالم العربي، مثل الكاتب محمود شقير، الذي يفضل إلقاء نظرة شمولية على ما يصفها حالة التردي التي يشهدها العالم العربي ومن ضمنه فلسطين.

يقول شقير ان هناك انصرافا شبه كلي عما يطلق عليها «الثقافة الوطنية الديمقراطية»، التي لو تم الانتباه إليها بمقدورها أن تسهم «في خلق حالة من التماسك الداخلي، الآخذ في التفكك في غير قطر عربي وفي فلسطين بالذات، في وجه ما يجري تخطيطه على النطاق الأشمل من سياسات».

ويضيف شقير «لو كانت بلداننا العربية، ومن ضمنها فلسطين، معنية بإيلاء الثقافة الوطنية الديمقراطية العناية اللائقة بها، ولو كانت مهتمة بوضع الخطط المدروسة التي تستهدف إنقاذ الأجيال الجديدة من السطحية والابتذال والاغتراب والضياع، لأقدمت على استثمار الطفرة الكبرى في وسائل الإعلام المعاصرة، في اتجاه إيجابي خلاق، للترويج للثقافة الوطنية الديمقراطية ولمنجزاتها الموجودة أصلا بين ظهرانينا، ولإنتاج برامج أخرى ثقافية وإعلامية جادة قادرة على التأثير الإيجابي في نفوس الشباب، على النحو الذي ينقذهم من حالات التخبط والضياع».

ولا يعتقد أن أمنيات شقير، وغيره من مثقفين، يشعرون بثقل الأزمة، يمكن أن تلقى قبولا لدى السياسيين الفلسطينيين، الذين دخلوا في نفق، لا يعتقد انهم سيخرجون منه قريبا.