الفوتوغرافيا تجمع العيون المتوسطية على صفيح ساخن

عدسات لـ17 شابا من الضفتين تسجل أحلامهم والآلام

TT

افتتحت مؤخرا «دار الفنون» بمدينة الرباط بعد رديفتها الموجودة منذ سنوات بالدار البيضاء. ويقوم هذا المعلم المعماري والثقافي على فلسفة جمالية صهرت الفضاء في شعريات، تنصب الحضارة المغربية في قلب معمعان الحداثة العالمية. وتتجسد هذه الرؤيا في مشروع تهذيب فكري وبصري يروم بناء مجتمع الذوق والفنون والمغايرة. ولهذه الغاية، فتحت «دار الفنون» ذراعيها للفنون التشكيلية والبصرية، وللمسرح والموسيقى والآداب ولمتعة التنزه في حدائقها المعلقة ومتحفها الافتراضي. وقد انسجمت كتابتها المعمارية مع تاريخ أشكال الفن الحديث في الرباط، إذ عرفت هذه الأخيرة منذ مقدم المهندس المعماري الخاص للماريشال ليوطي موجة من التجديد المعماري تمثلت أساسا في فن َArt Déco الذي انتشر في العشرينيات بالعاصمة والتحم بالفن الحضري المغربي. كل هذه المكونات الإبداعية ساهمت في الهوية المتميزة لدار الفنون التي تقع في حي حسان الراقي وسط العاصمة الرباط.

في هذا الإطار، تنظم «دار الفنون» بتعاون مع المفوضية الأوروبية، في إطار برنامج أوروميد، معرضا فوتوغرافيا يشارك فيه 17 شابا من مجموع بلدان البحر الأبيض المتوسط تحت عنوان «نظرات متقاطعة» يشارك فيه مصورون من المغرب، تونس، الجزائر، فلسطين، سورية، لبنان، الأردن، فرنسا، إيطاليا، اليونان، قبرص، سلوفينيا، فازوا في مسابقة للتصوير للشباب دون سن الثلاثين. وقد استضاف المعرض، في البداية، مبنى «فالينتيني» في إيطاليا. وتأتي هذه المسابقة وهذا المعرض المتجول في سياق إعلان برشلونة لسنة 1995 الذي أراد تشجيع المبادرات الساعية إلى تعارف الشعوب المتبادل، بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وبغضّ النظر عن «النوايا الحوارية» لهذا المشروع الذي لم يكن يملك إمكانيات طموحاته الحضارية، فإن الفكرة تبقى ملحة في فضاء ثقافي ورمزي يغلب عليه قرع طبول الحرب وحوار الصم والبكم. وهذا ما أدى إلى معاهدة برشلونة في صيغتها الثانية لسنة 2005، حيث ركزت القارة العجوز على الحوار الثنائي مع دول البحر الأبيض المتوسط.

استطاعت إذا، هذه الأصوات القادمة من مختلف مناطق البحر الأبيض المتوسط أن تقدم صورة حية عن ثقافتها ودرجة انفتاحها على الآخر. فقد التقط، مثلا، فؤاد المعزوز من المغرب أجواء معيشة الشباب في المغرب الحضري والقروي وفي برلين مستعملا تقنيات سينمائية متميزة، فيما يخص تركيب الألوان وتأطير الشخصيات أو اللعب بالمرجعيات التصويرية. وهو يقيم حاليا في «مدينة الفنون» بباريس بعد أن حصل على منحة من وزارة الثقافة المغربية، لأنه من المصورين المغاربة الواعدين. وصاغت السلوفينية فلانتينا بوكاي صورة أصيلة بالأبيض والأسود للشباب السلوفيني وهو يمارس رياضيته المفضلة في الشارع؛ إذ أعطت هذه المشاهد الجديدة في مجتمعها قوة ترميزية قبضت بها على روح مجتمع في طريقه إلى سعادة الرأسمال: كرة السلة، «السكيت بورد»، مصارعة رعاة البقر في المقاهي بالقبضات العارية.

وأعاد إياد فتحي جاد الله من فلسطين الحياة لتراجيديا الفلسطيني اليومية. تراجيديا حسية تنبض بالحيوات المتعددة والحارّة والألوان، حيث قدم فلسطين من بوابات متعددة مشرعة على تأويلات الحلم المطلق. فدخل بنا إلى فضائها من خلال قفز الأطفال على الأسلاك الشائكة كأنهم في نزهة عادية على ضفاف نهر الأردن، مارا بنا على حبل غسيل الملابس وهو يقف بشموخ على جدار العار الذي بنته إسرائيل لتحمي نفسها من حلم الحرية الفلسطيني. أما التونسي محمد بن سلطان، فصور أثار العولمة في الحياة الاعتيادية للشباب التونسي من خلال الخربشات على الجدران والأرصفة والأبواب. وقد التقط هذه العلامات المهاجرة من ثقافة إلى أخرى، ومن ضفة إلى أخرى أيضا، بعين ذكية بنت شعرية متحولة من كلمات عادية مثل الله، الإضراب، فريق جوفنتوس الإيطالي لكرة القدم، فرقة البينك فلويد الموسيقية، الهوليغانز وممنوع. وهي سميائيات تشكيلية تعبر عن تداخل المحلي في الكوني تداخلا عضويا يسميه المختصون اليوم: العولمة. عولمة في متناول اليد بعيدا عن أدبيات المعاهدات الدولية النائمة في عسل التمركز حول الذات.

هذه إذن بعض النماذج الفوتوغرافية المتميزة من معرض «نظرات متقاطعة» الذي تستضيفه «دار الفنون» في الرباط. وهي مناسبة لإظهار إمكانية النظر في اتجاه الآخر دون خلفيات تحييده أو الإلقاء به في البحر. مما يعني بالملموس أن الحوار مدخل رئيس لركوب أمواج البحر الأبيض المتوسط في الاتجاهين، لاسيما أن شباب الجنوب لا يعرف في الغالب الضفة الأخرى إلا من ثقب «قوارب الموت» الشهيرة. ويعني أيضا أن أهمية هذه الأعمال تكمن في وضعها بين أيدي مختلف طبقات الجمهور المغربي لتفتح له أبواب الحلم والمسؤولين عن برنامج «أوروميد» لبذل مجهودات أكبر لإخراج نظريات «حوار الثقافات» من منطق الاقتصاد الصرف وإدخالها في واقعية التداول في الضفة الشمالية أيضا بإطلاق برامج التكوين الفني والإسهام العملي الاستراتيجي في الضفتين معا.