مصريون يجهدون لاستعادة الدور العربي المفقود لبلادهم بواسطة لغة الضاد

مؤتمرات بالجملة وبحاثة يطالبون جامعة الدول العربية بتنسيق الجهود

TT

بعد عام كامل خصصته «ساقية الصاوي» في القاهرة، لتطوير اللغة العربية ومحاولة إنقاذها من التدهور المريع الذي ترتع فيه، عقد مؤتمر حاشد، جمع عدداً كبيراً من الكتاب والأدباء، حذروا خلاله من أن التردي الذي تعيشه اللغة قد يعصف بالهوية العربية ويعيد تشكيل مستقبل الأمة بالشكل الذي تريده القوى المتربصة بها، واعتبروا أن العمل على إعادة المكانة للعربية، يجب أن يكون مسعى قوميا، خاصة في عصر لا يعترف بالكيانات المفتتة ولا يفسح مجال المشاركة إلا أمام القادرين على التنسيق بين قدراتهم. والأهم من هذا وذاك أنها قد تكون المرة الأولى، ومنذ فترة طويلة، يستنفر فيها هذا الجمع الكبير، المدني والرسمي في مصر للانتصار للعربية من جديد، فبماذا يطالبون، وكيف لهم أن يجترحوا المعجزة؟

طالب المثقفون المجتمعون في «ساقية الصاوي»، خلال مؤتمرهم الكبير الذي اعتبر بمثابة صرخة تحذيرية، بإنشاء هيئة عليا من مختلف الدول العربية على وجه السرعة، بهدف المحافظة على اللغة والتنسيق العام، واعتبار 2007 عام تنشيط استخدام اللغة العربية في كل المجالات، والدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول حاضر اللغة العربية ومستقبلها تتبناه الجامعة العربية.

وكانت «ساقية الصاوي» قد نشطت طوال السنة الفائتة تحت عنوان «عام اللغة العربية»، حيث عقدت دورات مجانية لتعليم العربية، ومسابقة شهرية في «لسان العرب»، تمنح 3 آلاف جنيه لكل فائز، كنوع من التحفيز، كما يقول أيمن مسعود مستشار اللغة العربية بالساقية، على محبة العربية والاعتداد بها، إضافة إلى أمسيات وندوات شعرية ومهرجانات أدبية للإبداع المكتوب بالفصحى.

وجاء المؤتمر الذي عقد مؤخراً، بدراساته ونداءاته الملحة كتتويج لتجربة عام كامل، حيث أثبتت دراسات جادة قدمها أساتذة في العلوم والطب، ضرورة العودة إلى تدريس المواد العلمية باللغة العربية مع التعمق في دراسة اللغات الأجنبية، والبعد عن مخالفة النظم التعليمية برياض الأطفال وما بعدها، خاصة أن كل نظم التعليم تتفق على ان تعليم اللغات الأجنبية للطفل قبل أن يستوعب هيكل لغته الأم في المراحل الأولى، يربك ذهنه ويبعده عن لغته القومية. وهي مخالفة نطبقها بامتياز، وآن لنا أن نتراجع عنها، ونؤخر تعليم اللغات الأجنبية إلى المرحلة الإعدادية.

وحذر أساتذة العلوم، من منح الطالب المصري أحيانا شهادة معادلة للثانوية العامة، من دون أن يمر بأية دراسة للغة العربية، معربين عن دهشتهم بأن لا تشكل دراسة العربية في بعض كليات الجامعات الحكومية كالهندسة والطب والصيدلة والعلوم، جزءا من متطلبات التخرج، في الوقت الذي تحرص فيه الجامعات الأجنبية في مصر على ألا يتخرج طلابها قبل دراسة مادتين على الأقل في اللغة العربية.

ويؤكد د. محمود حافظ، رئيس مجمع اللغة العربية أن هناك كيانات عالمية تتمنى لو أتيح لها ما يتاح للمنطقة العربية الآن من وجود لغة موحدة يكون الحفاظ عليها منطلقا للإسهام الايجابي الفعال في التقدم. مؤكداً ان المحافظة على اللغة هو حفاظ على قدراتنا وثرواتنا ومستقبلنا من أن تلتهمها القوى الأخرى، وتحيل الجميع إلى دور التابع. مشيرا إلى أن هذه الدعوات ليست بالجديدة حيث نظم في مصر وبشكل خاص في «المجلس الأعلى للثقافة» على مدار العام الماضي، العديد من الندوات والفعاليات، كان آخرها خلال شهر ديسمبر (كانون الاول) الماضي، للتنبيه إلى أهمية هذه القضية، بمشاركة مئات الباحثين من مختلف التيارات ومن العديد من دول العالم.

ويقول د. أحمد درويش، مقرر لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة، أنه حان الوقت للتنبه إلى الأهمية التاريخية والإستراتيجية لمصر لتعود للقيام بدورها التنويري، الذي قادت به العالم العربي منذ مطالع عصر النهضة بفضل محافظتها على اللغة العربية في مدارسها وجامعاتها ووسائل إعلامها وعلى أيدي مفكريها وكتابها ومؤسساتها، وهو الدور الذي حفظ لمصر مكان الريادة في عقل وقلب كل عربي فضلا عن تحقيقه للتقدم العلمي والثقافي لأبنائها.

ويضيف درويش: إن هذا الرأي يتفق مع وجهة نظر كافة الباحثين الذين شاركوا في ندوات عقدت مؤخرا ونبهوا إلى خطر إهمال عنصر اللغة كمرتكز للتقدم والتماسك الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي، لافتين إلى ضرورة التنبه لتراجع دور اللغة على مستوى التعليم والإعلام والفنون، وخطورة اختلال التوازن بين اللغة العربية واللغات الأجنبية في مراحل التعليم المختلفة.

أما عضو اللجنة بالمجلس، الكاتب مصطفى عبد الله فيقول ان كل بلاد العالم تدرس العلوم بلغاتها القومية سعيا إلى توطين المعرفة وتعميقها، مشيرا إلى أن المثقفين المجتمعين نظروا أيضا إلى خطورة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في تشكيل ثقافة ووجدان المواطن، وأهمية الارتقاء بالمستوى اللغوي من خلال وضع مواثيق شرف ملزمة تحدد مواضع استخدام اللغة المنطوقة والمكتوبة، خاصة مع شيوع العامية في الصحافة والإعلان، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، بحيث يستدعي الأمر وجود دراسات علمية، وتخطيط هادف للتنسيق بين المستويات تحقيقا لفكرة المحافظة على الهوية القومية والأهداف العليا.

ولفت عبد الله إلى أن جموع المثقفين العرب طالبوا بأهمية العمل على تطوير مناهج تعليم اللغة، حيث أصبح ضروريا الاستعانة بالتقنيات العلمية الحديثة، ودراسة الوسائل التي تتبعها اللغات الأخرى وتكثيف الترجمات، وإعداد معاجم المصطلحات في فروع المعرفة، عبر إشراك المجامع اللغوية والمدارس والجامعات والهيئات الإعلامية وجمعيات حماية اللغة، وتفعيل القوانين الصادرة بشأن حماية هذه اللغة في المكاتبات الرسمية واللافتات التي تشوه وجه المدن العربية بالكتابات الخليطة.

ويضيف الأديب جمال الغيطاني إن الثقافة العربية تمر بأزمة، رغم ما يتمتع به العالم العربي من ميزة لم تحصل لغيره من الشعوب، وهي أنه «لسان واحد ووجدان واحد»، ولكن للأسف حدثت تجزئة تهدد البنية الثقافية العربية وهي مستمرة من مئات السنين، وازدادت حدة بعد تجزئة العالم العربي في بدايات القرن الماضي.

وشدد الغيطاني على أن الأخطر هو ظهور العديد من الأسر العربية التي ترى أن مستقبل أبنائها مرتبط باللغات الأجنبية، وبالتالي حدث ما يسميه الغيطانى «انشطار ثقافي»، داعيا إلى إعادة الاعتبار للغة العربية والاعتداد بالمصطلحات الجديدة مع ضرورة تعريبها وإنتاج قاموس يضاف إلى القاموس الشامل «تاج العروس» مع لعب الجامعة العربية دورا في إحياء مشروع إنتاج قاموس عربي جديد. وخلص الغيطاني إلى أن عودة الروح للثقافة العربية تحتاج إلى أربعة عناصر: الترجمة والتراث وقاموس ودائرة معارف.

أما الكاتب المؤرخ جمال بدوي، فيؤكد أن اللغة هي إحدى الركائز التي قامت عليها النهضة العربية السياسية في العصر الحديث، وأن انهيار الثقافة العربية ظاهرة خطيرة إذا علمنا أن أوروبا فيها 40 لغة مثلا ولها 30 أصلا وعرقا، ومع ذلك متوحدة بينما العرب لديهم الكثير من المزايا ولا يستفيدون منها. وأكد بدوي أن موجة التغريب فاجأت العرب في عقر دارهم وجاءت تحمل أفكارا تختلف في كل شيء عما يعيشونه، وحدث اختراق للثقافة العربية التي كانت تحمل قيما خلقية مهمة، منتقدا انجذاب أبناء العرب إلى التقاليد الغربية، و«تعميق ذلك من خلال البعثات التي سافرت إلى الخارج حيث تصادمت قيمهم مع القيم الغربية ورجعوا بعقليات مختلفة متأثرة بالتيار الغربي».

ودعا بدوي للعودة إلى الجذور والشعر الجاهلي والمتنبي وأبي العلاء المعري وأبي نواس وغيرهم، باعتبارهم أساسا للثقافة العربية، مطالبا الجامعة العربية بإحياء دور «الإدارة الثقافية»، التي صارت معطلة، بسبب الصراعات العربية. كما طالب بمواجهة ثقافة العولمة وادعاءات القرية الواحدة التي يعتبرها «أكذوبة لتذويب الثقافة العربية» بالاهتمام بالعلماء ووضعهم في صورة جديرة بالاحترام وتقوية دورهم.

من جانبها تقول د. سهير عبد الفتاح، الخبيرة بالمجلس العربي للطفولة والتنمية، إن هذه التحديات وضعت المجلس أمام مسؤولية العمل والبحث عن حلول في إطار جامعة الدول العربية والإعداد لمؤتمر «لغة الطفل في عصر العولمة» في الفترة من 17 إلى 19 فبراير المقبل. موضحة أن اختيار التوقيت كان في غاية الأهمية ومتواكبا مع التطورات التي يشهدها العالم العربي حاليا والتي تهدد الهوية وترتبط ارتباطا وثيقا باللغة وتتزامن أيضا مع الاحتفالات الدولية باليوم العالمي للغة الذي تطلقه «اليونسكو»، والاحتفال بمرور 20 عاما على إنشاء المجلس العربي للطفولة والتنمية.

وأضافت ان المؤتمر سيبحث دور اللغة العربية ووظائفها في تشكيل الهوية، وواقع اللغة في عالمنا العربي واستخداماتها، وإمكانية تعلم العلوم الحديثة بالعربية والاطلاع على الخبرات الأجنبية في هذا المجال وفتح نوافذ التواصل مع هذه الثقافات، بالإضافة إلى وضع استراتيجية مستقبلية تتبناها الدول العربية لتمكين الطفل العربي من استخدام لغته القومية بكفاءة، بما يلبى احتياجات العصر مع احترام حق الأقليات في استخدام لغتها الأم جنبا إلى جنب.

وأوضحت د. سهير أن المؤتمر سيبحث إشكاليات الشعر الموجه للطفل وأهميته في تكوين لغته، بالإضافة إلى اللغة التي تروج في الفضائيات كما يعرض أكثر من 40 ورقة عمل لخبراء وباحثين من 22 دولة عربية، فضلا عن باحثين عرب مقيمين في المهجر، واستعراض عدد من التجارب الدولية المختلفة في كوريا الجنوبية وأميركا ودول أوروبية.

وجدير بالذكر ان اللجنة الفنية الاستشارية للطفولة بجامعة الدول العربية دعت إلى القيام بتنظيم ورش وطنية تناقش قضايا اللغة، والتعاون في القيام ببحث ميداني لرصد الوضع اللغوي للأطفال العرب.