«أصل الهوى» كما تتبعته الرواية الجديدة لحزامة حبايب

نص عن رجال خمسة لا تقدر على تطريزه إلا امرأة

TT

من أين ينبع الهوى؟ وأين يصبّ؟ وكيف تتمهل الخطوات أو تتسارع وتتداخل المصائر وتتباعد، وتضطرب الأحوال ثم تستقر، ويتوهج الجسد مثل عود ثقاب قبل أن ينطفئ وتتقلب أوراق الروزنامة، فلا يجد فرسان الهوى أنفسهم سوى كائنات متراخية تربض في أرائكها ربضة كسلى، وهي تتابع الأخبار المكررة لقناة «الجزيرة»؟ أسئلة حاولت حزامة حبايب أن تزج قارئها في أتونها، بكثير من الشغف والتأني، وهي تضع أمامه الشخصيات الخمس الرئيسية لروايتها «أصل الهوى».

رواية «أهل الهوى» الصادرة حديثاً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت في ثلاثمائة صفحة ونيف، استثارت الرقيب الاردني فمنع توزيعها في زمن ما عاد المنع فيه يجدي في شيء، فالمحرمات التقليدية معروضة بوفرة الكترونية في كل البلاد العربية، في حين تشح طائفة قراء الأدب وتتقلص من المحيط للخليج، وفق المصطلح الشعاراتي السقيم.

خمسة رجال فلسطينيون، من أجيال متباينة، قذفت بهم الهجرات الى الخليج، في مكاتب إحدى الصحف الظبيانية، يمضغون ماضياً عذباً ومعذباً (بكسر الذال) ويعيشون العصر العربي الجديد بكل هوسه الموزع بالتساوي بين التحجب والتكشف. ماض اختارت الراوية أن تؤجله الى الفصل الثاني، وأن تطرزه غرزة غرزة، بخيوط متعددة الألوان مثل ثوب قروي جذاب يخفي تحته أرواحاً ذات قدرة على حكايات عشق متعددة الطبقات، تذهب جيئة ورواحاً في الزمن، ولا تترك الخيط يفلت ولا يد القارئ تتيه منها في تعرجات الطريق، مثل يد طفل متشوق للحكاية يتشبث بطرف الثوب الامومي لئلا يضيع في ازدحام سوق الدنيا.

أما الفصل الأول للرواية والموزع على عناوين يحمل كل منها اسم واحد من الشخوص الخمسة، فهو فصل المآل الذي أخذ من كل واحد منهم حماسة الامنيات الكبرى تاركاً له جمرات الجسد يستوقدها ويتدفأ بها في ما آل اليه من كهولة مريرة.

كتبت حزامة حبايب رواية سياسية بدون أن تخط حرفاً في السياسة، ومن هنا ينبع جمال هذا النص الغارق في غوايات الجسد وفي التفاصيل الحياتية لرجال لم تصف لنا الكاتبة ملامحهم الخارجية، مكتفية بتحديد أعمارهم تحت العناوين التي تحمل أسماءهم، تاركة لسيرة كل منهم أن ترسم لنا شكله الذي صاغته به التجربة بالتواطؤ مع مخيلة كل قارئ.

ولدت حزامة حبايب ونشأت في الكويت لأب فلسطيني وأم سورية، واضطرت الى مغادرة مسقط رأسها، بعد حرب الخليج الاولى، الى الاردن حيث بدأت مما تحت الصفر وعرفت ككاتبة قصة. وكانت قد أنهت في الكويت رواية قصيرة لم تنشر، وشرعت في رواية، ثانية لكنها تخلصت منهما بعد الحرب لأنها، حسب قولها، اكتشفت أنها لم تعش الحياة التي تريد أن تعيشها. لكنها احتفظت بمسودة مجموعة قصصية صدرت في الاردن، فيما بعد. وتلتها ثلاث مجموعات وضعت اسمها بين الكتاب المتميزين للقصة القصيرة التي تلقى ازدهاراً في الاردن بشكل خاص. وبعد سبع سنوات انتقلت مع اسرتها الصغيرة الى أبو ظبي بحثاً عن أفق آخر.

والكاتبة التي تحمل اسماً مولوداً من خطأ لغوي ـ أرادت أمها أن تسميها حذام، تيمناً بزرقاء اليمامة، لكنهم سجلوه حزام حسب اللفظ الشامي وأضافوا اليه التاء المربوطة ـ استفادت من محطات تنقلاتها بين البلاد في رسم جغرافيا روايتها التي نحن بصددها. وهي تقول إن تلك التنقلات المكانية التي كان معظمها قسرياً وغير مخطّط له، لعبت دوراً كبيراً في حالة الترحال التي تعيشها شخوص «أصل الهوى»، سواء بالمفهوم المادي أو النفسي، وهي حالة تبدو وكأنها خلقت نوعاً من عدم الإيمان بالجغرافيا، لدى الكاتبة، مقابل التاريخ الشخصي الذي يملك صفة الديمومة والذي تحمله معها. وهو تحول لا يخلو من قسوة في ظروف سياسية معينة من نوع تلك الظروف أو الوقائع الغريبة التي نسمع عنها أو نشاهد صوراً باهتة منها في التلفزيون.

تواصل حزامة: «كنا سادرين في غي قناعاتنا بأن تلك الأحداث لن تقع لنا. لكنها حصلت، كما حدث حين أفقت ذات صباح في الكويت، لأكتشف أن حرباً وقعت في نومي ونوم العالمين، واضطرتني الى العيش والعمل في ثلاث دول لم تعن لي الكثير كجغرافيا مختلفة بقدر ما خلقت لدي إحساساً متجدداً بأن عليّ في المرة القادمة (وما أكثر المرات القادمة) أن أسافر خفيفة، أي أن أتخفف من ملكيات كثيرة لا معنى لها ومن أشياء يصعب علي أن أحملها أو أوضبها في حقائبي، إذا آن أوان الرحيل، كما بات عليّ أن أتخفف من علاقات قد أفتقدها، فما يدريني بأني لن أجمع حوائجي، في غد ما، على عجل وأرحل؟ وإذا ما اشتهيت الأشياء أو البشر، ألبي شهوتي لها بعنف، كما قد أعزف عنها فجأة، ليس ضعفاً في الحب والإيمان لكن لأن الجغرافيا تخذلني فأحاول، مع ذلك، أن أكون وفية إذ أستعيدها تاريخاً. وفي التاريخ، يكمن الهوى نبيلاً ويستقر أصلياً وأصيلاً».

«أصل الهوى» هي رواية عن الرجال العاشقين، لا يمكن أن تكتبها إلا امرأة عرفتهم وأغرمت بهم وهجست بأحلامهم، واقتربت منهم وبكت لهزائمهم وتعذبّت على أيديهم. لكنها أيضاً رواية النساء القويات المتغلغلات في كل مفاصل الحياة، والحاضرات بقوة في كل الفصول والتقلبات. نساء يمارسن هواهن في أكواخ المخيمات مثلما يتحررن في المخادع ووراء الأبواب وزجاج السيارات القاتم والهواتف وورق الرسائل والبريد الالكتروني والبيوت المستأجرة جماعياً. ترى الكاتبة هذا الحضور الجارف طبيعياً. إنهن، كما تقول «عشيقات فاتنات وأمهات قادرات ومحبوبات مولعات بالحياة، كما بالموت. على أن هذا الحضور النسائي لا يمكن التعاطي معه بمعزل عن الشخصيات الأساسية في الرواية التي تتابع خمسة رجال وخمس هزائم، ولا بأس بفرح قليل وشغف حياتي رغم كل شيء. إن الأصل في الحكاية هو هؤلاء الرجال، والهوى فيها هو هواهم».

قد يمكن تصنيف ما كتبته حزامة حبايب كنص فلسطيني، وقد ينظر اليه كرواية اخرى من روايات الشتات الفلسطيني ونسخه، أو الشتات العربي بما يحمل في ثناياه من نصر شحيح وانكسارات وفيرة. لكن الكاتبة تصر على أن ما يعنيها هو أن تكون رواية الإنسان إذ تقتفي أصل هواه أو تقاربه، وإن على استحياء. وترفض الكاتبة التفسير الذي يجعل من الافراط الجنسي للشخصيات في «أهل الهوى» تعويضاً عن الخيبات السياسية. اكتسبت حزامة أدواتها الفنية من حياتها الغنية بالتنقلات ومن دراستها للأدب واللغة الانكليزية. وهو عيش تقول انه انتخبها أكثر مما سعت إليه. «في معظم الأحيان لم أختر الرحيل، وقطعاً لم أختر الحرب، لا ولا اخترت الهوى الذي وقعت فيه. على أنه، من حسنات الحياة، انها لا تتوقف لنتأملها إلا متأخراًً لنكتشف لاحقاً أن أوجاعنا وانكساراتنا أعطتنا كما أخذت منا. ثم إن الحياة لا تُدرك في جميع الأحوال إلا بعد وقت، يبعد أو يقصر، وقد لا ندركها أبداً. شخصياً، ما إن بلغت العشرين من عمري حتى اكتشفت أنني اختصرت فيها أربعين عاماً. ولم يتوقف العد المضاعف منذ ذلك الحين». يستوقفنا، أيضاً، الشغف الموسيقي المبثوث في فصول الرواية بحيث تأتي الأحداث «ملحّنة» على ايقاعات تناسب كل شخصية. وهو شغف يبلغ أقصاه، أو يعود الى أصل هواه، مع شخصية رمزي عياش وهو يغني لابنته سمر العائدة مخذولة من بيت زوجها، أغنية «جفرا»، تلك الملحمة الشعبية الفلسطينية التي كانت تطلبها منه وهي طفلة. «جفراويا هاالربع بتحصد في زرع الغاب، والعين كحيلة والسالف جنح غراب، طلبت منها الوصال قالتلي ما بهاب، وصالك يا المحبوب ع راسي وعينيّ».

أخيراً، لابد من الاشارة الى اللغة المعتنى بها والاستعارات الذكية والمفردات التي تكشف عن قاموس ثري تبزغ فيه المفردة الفلسطينية الشعبية مكتسبة وقعاً فصيحاً مستمداً من بلاغتها في ايصال المعنى الى القارئ، بكامل نكهتها المحلية.