عودة العربي الغائب عن عروبته

المصري يوسف رخا يكتب عن بيروت

TT

كتب الكاتب المصري يوسف رخا، كتابه الجديد «بيروت شي محل»، الصادر ضمن سلسلة كتب «أمكنة» تحت وطأة الاحساس بهوية «ملتبسة» وعروبة «منقوصة» وبقوة دفع «الصدمة» التي عاشها بعد زيارة واحدة لبيروت، وتكاد تكون كلمة «الصدمة» هي الأكثر تكرارا عبر صفحات الكتاب هي وبقية مفرداتها الدالة على حالة إعجاب مقرونة بالارتباك إزاء المدينة.

اذا كانت بيانات كتاب «بيروت شي محل»، تشير من دون التباس الى انه صدر قبل الحرب الاسرائيلية الاخيرة على لبنان، إلا ان القارئ يصعب عليه أن يحرم نفسه من اجراء بعض المقارنات بين الحالة التي عاشها الكاتب في بيروت في عام 2001، والحال الذي وصلت اليه المدينة الآن، وهو حال يؤكد استمرار «اللغز اللبناني» وصعوبة فك شفراته طالما ان ذاكرة الحرب الاهلية تفرض صوتها وسطوتها على مختلف الأصوات التي تحضر في الكتاب، لتقدم شهادات من مواقع مختلفة على الواقع اللبناني المعاصر. فالحرب هي الكلمة «المفتاح» باعتراف رخا، الذي يشير في الفقرة الاولى من كتابه الى اضطراره في سياق استعداداته للقيام برحلته «اللبنانية». وفي اطار هذا الاستعداد المعلوماتي يبدي الكاتب قدرا من الاعجاب بالنصر الذي حققه «حزب الله» في عام 2001 بتحرير الجنوب اللبناني من دون أن يغيب تحفظات أصدقائه من الكتاب اللبنانيين على ثمن هذا الانتصار ونفوره من قوى الإسلام السياسي.

وفي مواجهة الصعوبات التي تنتابه أمام رغبته في تصنيف اتجاهات اللبنانيين ازاء قضاياهم الاشكالية، يفضل الاحتفاظ بقدر من «الجهل» الذي يوفر له مساحة لا بأس بها من «الأمان» وحرية أكبر في الانصات الى تصورات الجميع من دون أن يزكي رأيا على حساب رأي آخر.

ويقص المؤلف كيف كان عليه أن يمرن أذنه للتعاطي مع «المحكية» اللبنانية ووضع ما يقابلها من التعبيرات المصرية، وهي صدمة لم تخف اعجابه بـ «قوة المجاز» في هذه اللهجة، وهو اعجاب تنوعت أسبابه واختلطت مع احساس الصدمة الذي انتابه حين وجد أن بإمكانه الالتحاق بأية تجمعات كبيرة من دون ان يطارده «الخوف الطولي» الذي نما معه في مصر من قوى «الأمن المركزي». ويعبر عن ذهوله أيضاً من أساليب اللبنانيين في التعبير عن الوطنية، حيث «تنعقد التجمعات وتنفرط بامتداد السكة» في سياق يجوز لاعلانات الماكياج فيه ان تتضمن كلاما عن الوطن.

ويتأكد معنى الذهول حين يقف رخا باتجاه «الداون تاوون» Downtown ليستشعر أن ثمة وعياً مغايراً بالجسد يجعله بعيداً عن أوروبا، بينما كل شيء يحاول اقناعه أنه هناك.

ويتجدد الحديث عن وطأة الحرب الاهلية حين يطلب منه الناقد والمخرج السينمائي محمد سويد، أن يقرأ الحرب من منظور أنثوي، وذلك يعني بحسب استنتاجاته «الشعور بانتقاص الرجولة حين تخذلك القسوة، وربما يعني الحداد في مقابل بهجة الرصاص أو تدبير المجازر تحت أغطية السرير، هو ارتباط العشق بالموت، كما أعاد جان جينيه اكتشافه أو كما حاول صديق اقناعه بأن الحرب لم تنته أصلا، رغم أن الميليشيات اختفت والموت لم يعد يوميا».

وفي تقابلات بين «الأنا» «المصري»، و«الآخر» «اللبناني»، ينتصر رخا للنموذج اللبناني في القدرة على ممارسة الحرية والتظاهر حتى لو اعترف بأن ثمة إحساساً باللاجدوى يسحب من نفسه الأمل، كأن يشير الى أن تلك الحرية ثمن لخبرات تاريخية وحضارية كانت الحرب على رأسها، لذا لا يتردد في الكشف عن أمنية قاسية بأن «الحرب لو اندلعت في مصر لما أصبح اليأس مركز كل شيء»، وبتكنيك شديد الصلة بآليات السرد السينمائي يمزج الكاتب بين أكثر من لحظة زمنية، فهو يستحضر صور «طفولته»، ومراهقته وصولا إلى لحظته المعاصرة، حيث يعمل صحافيا في مؤسسة يحاصر فيها بالتعاسة. وفي سياق مطول يرصد رخا جولاته في أنحاء «لبنان» بصحبة «س» المرأة، التي يكشف النص عن التباس علاقه الراوي معها وتأرجحها بين «الغرام التام والصداقة المتوترة»، لكنه ينتهي الى الإقرار بأنها «المرأة التي يراها نموذجاً لمدينتها، المأخوذة بعروبة غرائبية»، أما المرأة فميزتها أنها تهيئ له الفرصة ليكتب نص «عودة الغائب من عروبته» كما تعطيه فرصة استثمار عواطفه في «مشروع وهمي»، بينما تنمي فيه المدينة الفضول طوال الوقت. فقد تعلم فيها كيف أن صورة جمال عبد الناصر بإمكانها أن تمنحه الطمأنينة، وآمن أن بيروت رغم أنف الحروب والمذابح «شي محل/ شي وطن» للمحروم من مساحته في بلاده. ورغم هذا اليقين الذي يشبه اليقين الذي انتهى إليه كتاب عرب من أجيال مختلفة كتبوا سيرتهم مع «بيروت»، إلا إن رخا لا يكتب عن المدينة مثلما كتب عنها ابناء بلده صنع الله ابراهيم، أو حلمي سالم، أو رؤوف مسعد، الذين طغت الآيديولوجية على نصهم من دون ان تضيع فيه متعة النفاذ الى المدينة.

يكتب رخا نصه غير راغب في الوقوف تحت أية راية، ولا يخجل من اعلان فشله في اختبار توجهاته السياسية لأن ديدنه الهوس بالأشياء بأثر رجعي. فهو المولود بعد الانفتاح مع موت «العصب القومي»، وخروج المارد الأصولي من القمقم الذي فضل ان يعيش عمره في «طفولة بلا حدائق».

وأخيراً، يلفت النظر منذ الغلاف الأول المزاج الفني «الرايق»، الذي صاغ به المصمم الجرافيكي محيي الدين اللباد، غلاف الكتاب وبقية صفحاته.