تظاهرة احتجاجية ضد سياسة توني بلير تصبح معرضاً فنياً في لندن

رسالة هاو وصلت دعنا نحتفل به في «تيت غاليري»

TT

اعتاد الفنانون والنحاتون ان يسجلوا تاريخ الوقائع من خلال لوحة فنية او نصب تذكاري. لكننا اليوم، في عصر ما بعد الحداثة، نشاهد توثيقاً للأحداث، من نوع مختلف تماماً. فالسرد يصبح بديلاً عن الصورة والتمثال، والأشياء اليومية العادية تحل محل الألوان والخطوط. وهكذا يصير الفن تركيبات من حواضر الحياة البسيطة. ومثال هذا، ما حققه الفنان البريطاني مارك والينغر حين اعاد تركيب حدث يومي ليست له علاقة بعالم الفن إلا من باب دلالته السياسية. وإذا كان لمعرضه الجديد من أهمية فهو انه يكمل تظاهرة سياسية بدأت في الشارع ونقلها إلى واحدة من أهم صالات العرض في لندن.

وظف الفنان والينغر قصة براين هاو، وأعاد إنتاجها عبر إنشاءات صورية وتركيبات يحتضنها اليوم بفخر الـ «تيت غاليري»، أحد أهم المعالم الفنية الرصينة في لندن. لكن من هو براين هاو؟ وهل تستحق قصته ان تستعاد فنياً؟ أصل الحكاية، تعود الى يونيو (حزيران) 2001 ، عندما قرر هاو الاحتجاج لوحده على سياسات حكومته ورئيسها توني بلير بسبب الحظر الاقتصادي المفروض على العراق. وقتها وقع اختياره على الساحة المقابلة للبرلمان البريطاني لإيصال صوته الى ممثلي الشعب، وعلى مرأى ومسمع من المارة والسياح ورجال الشرطة. واستمر على هذه الحال، حين أضاف الغزو الأميركي البريطاني للعراق له أسباباً أخرى، الى ان أصدرت السلطات الحكومية في منتصف العام الفائت قراراً يلزم كل متظاهر او تظاهرة غير مرخص لها بعدم الاقتراب من بوابات البرلمان مسافة كيلومتر واحد. ولم ينفذ القرار الا قبل أيام، ما حدا بهاو الى نقل ما بقي من عدة احتجاجه الى زاوية وسط الحديقة المقابلة لـ «أم البرلمانات». وشملت عدته لافتات وملصقات وأعلاما وخرقا وأسمال ولوحات وقصاصات صحف ونسخا من عرائض الاحتجاج وشعارات مناهضة للحرب.

ولئن تمكنت الشرطة من طرد هاو جزئياً، الا انه حضر بكامل عدته على يد الفنان والينغر كضيف محتفى به اليوم في فضاء الـ «التيت غاليري». ولعل المفارقة هي في التسمية التي أطلقت على المعرض، إذ تحولت الى محاكمة تضرب في صميم سياسة الحكومة البريطانية بأكثر من موقع. فزائر معرض «بريطانيا الدولة»، وهو الأخير ضمن سلسلة تحمل الاسم نفسه، كان من بينها عرض آخر اشتغالات الفلسطينية اللبنانية منى حاطوم، سيجد نفسه وسط تظاهرة سياسية من الطراز الأول. وجرياً على سابق ابداعاته، كما في عمله Ecco Homo والمقتبس من الإنجيل والذي احتضنته «ساحة الطرف الأغر» في عام 1999، يعيد والينغر الى واجهة النقاش موضوع حرية التعبير عن الرأي وانحسار الحريات المدنية في بريطانيا اليوم.

ولعل نباهة والينغر، تظهر وسط هذا الحشد من الدمى واللعب المهشمة وسرير هاو والأطفال المبتورة أياديهم واللافتات المنددة بالحرب، كتب على أحدها «الحقيقة»، وأخرى على شكل لوحة يتوسط فيها توني بلير وزير خارجيته جاك سترو ووزير الخزانة غوردون براون وأمامهم منضدة وعليها ثلاث طاسات مليئة بالدم. ومن بين المعروضات، بطاقات بريدية تحمل صور دببة، كتب عليها (من الصعب التحمل). وفي مكان العرض، رسم خط على الأرض، يخترق الصالة، وهو على شكل قوس يمتد كيلو متراً، كتورية للطوق الذي يضرب حول مكان ما يحظر تجاوزه. ويمر الخط عبر أغلب صالات الغاليري وغرفه من متجر توضيب الهدايا الى المكتبة، مروراً بغرفة يشغلها تمثال نصفي لـ «تي إي لورنس»، ثم يمتد الى تحت خزانة زجاجية تحوي أول ترجمة إنجليزية للقرآن نشرت في عام 1649، ثم يلتف حول لوحة «الحاصدون» لجورج ستابس. ورغم عشوائية مرور هذا الخط، إلا انه يشي بخلق علاقة حوار مفتوح بين محتويات الغاليري وتركيبات الفنان والينغر التي جمعها ووضبها بأمانة من مقتنيات هاو.

هل يجمع معرض «بريطانيا الدولة» الاحتجاج ومحاكاة الشيء الجاهز ومصادرة الوقائع؟ نعم، فهو يقارب كل هذه المعاني من دون ان يكون مملاً او متجاوزاً للخطوط الحمر. وربما يضفي عليها معنى آخر وهو، مسؤوليات الأفراد والمجتمع تجاه من يمثلوهم سياسياً. وعند هذه النقطة، ورغم نبرة النقد، تغدو الليبرالية الديموقراطية هي الخيار الذي يقبل النقد والقادر على المساومة. ذلك ان أساس النظام الليبرالي، وهو ما يحسب له، قائم على ضمان الحرية الداخلية للفنان الغربي وتوفير الفضاء العام الآمن، سواء في تمثلاته السياسية او الاجتماعية او الثقافية. وكأن معرض «بريطانيا الدولة» يقول، إن رسالة احتجاج هاو قد وصلت ودعنا نحتفل به فنياً، ولكن من على مبعدة كيلو متر واحد من «أم البرلمانات».