انتصر للمرأة على غرار ألف ليلة وليلة وعبر عن صعود البرجوازية

الديكاميرون لأول مرة كاملاً باللغة العربية بعد قرون من صدوره

TT

تأخر صدور هذا الكتاب للإيطالي «جيوفاني بوكاشيو» إلى اللغة العربية، كاملا، عقودا، على الرغم من أنه يعتبر واحدا من أبرز إنجازات عصر النهضة الإيطالي. ولكن لم يفت الأوان بعد، فإذا كانت القصة، والرواية العربيتان قد حققتا أشواطا بعيدة وعميقة في مجرى التطور، واكتشاف الأساليب الفنية، واستقصاء الاحتمالات اللانهائية لإثراء الروح البشرية، فإن حضور الديكاميرون اليوم إلى لغتنا العربية، سيغني دون شك معرفتنا بأحد الفنون الكتابية، من خلال كتاب ترك أثرا دامغا على النشاط الإبداعي، ليس في إيطاليا وحدها، بل في أوروبا والعالم كله.

يشير المترجم في مقدمته الوافية للعمل إلى الترجمات العربية المبكرة، حيث اختار كامل الكيلاني تسع قصص من الكتاب، وأصدرها في كتاب بعنوان «مختار القصص» عام 1929، ثم نشرت مجموعة ثانية من القصص، عام 1933 في كتاب بعنوان «روائع من قصص الغرب»، وضمت تسع قصص أيضا من الديكاميرون، واحدة منها مكررة. وفي عام 1956صدر كتاب بعنوان «الديكاميرون/ألف ليلة وليلة الإيطالية» بترجمة كامل إسماعيل، وضمت اثنتين وعشرين قصة من الديكاميرون. وفي كل الترجمات السابقة وضع المترجمان عناوين للقصص من ابتكاريهما، خلافا للكتاب الأصلي. هذا إضافة إلى أن الكيلاني تدخل في الترجمة، وأعاد صياغة القصص، وحشاها بالمواعظ الأخلاقية، والمحسنات الزخرفية.

بشر الديكاميرون بفن أدبي جديد. وكان تعبيرا صريحا أو ضمنياً عن صعود الطبقة البرجوازية إلى قيادة التاريخ. كما جسد السمات الرئيسة للأدب المتقدم إلى الواجهة في ذلك الحين (نحن نتحدث عن القرن الرابع عشر، زمن تأليف الكتاب) ، ومن تلك السمات أن يبسط الكاتب عملا يقع في الحاضر، ومنها نقد الأخلاق والأفكار الجدلية والواقعية المعاصرة له.

على أن الجانب الجاذب في هذا الكتاب لم يكن أفكاره، وإنما تلك القصص والحكايات المشوقة التي بدت مثل الانفجار، وظللت القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وخلقت ما يشبه الدائرة السحرية، وأنتجت عشرات الأعمال التي قلدت الديكاميرون، أو تأثرت به، كان أكثرها جمالا هو كتاب الإنكليزي «جوفروا شوسر» المعنون بـ «حكايات كانتربري».

ولد بوكاشيو في مدينة فلورنسا الغنية، لوالد من تجار المدينة، كان قد عاشر امرأة مجهولة، وأنجب منها ابنه جيوفاني. ليس لدى التاريخ الأدبي معلومات موثقة عن طفولته. والمعروف أنه تلقى دروسه الأدبية في مدينة فلورنسا، وحظي بعدد من الأساتذة البارزين، وأنشأ صداقة طيبة وعميقة مع شاعر إيطاليا العظيم «بتراركا». ومثل الشاعر الكبير «دانتي» أحب امرأة واحدة، هي «ماريا ديل ألينو» وظل مخلصا لها حياتيا، وأدبيا طوال عمره، فجسدها في أعماله الأدبية باسم «فياميتا» ومعناه «اللهب الصغير»، وجعلها واحدة من الشخصيات التي تروي حكايات الديكاميرون.

وفي مدينة نابولي، حيث أرسله والده للعمل في التجارة، والأعمال المصرفية، أخفق الشاب، ولم يظهر أي اهتمام بذلك النشاط الذي كان يسم الحياة العامة في أوانه.

ما الديكاميرون إذن؟

تعني الكلمة باليونانية (الأيام العشرة). وسوف نعلم من القراءة أن القصص التي يحتويها، وهي مئة قصة، قد رويت في هذه الأيام العشرة فقط، فقد اتفقت سبع نساء من بنات فلورنسا أن يهجرن المدينة المنكوبة، هربا من الطاعون، ليعشن في الريف حيث وجدن قصرا. واصطحبن معهن ثلاثة شبان من أجل الحماية والتنوع، وهناك توصلوا إلى الاتفاق على رواية القصص، في خطوة يحاولون فيها تجاوز لحظة الموت المأساوية. ويقرر الجميع تنصيب ملكة أو ملكا عليهم لكل يوم من أجل الإمساك بقيادة الحكايات. في هذه اللحظة يماثل الديكاميرون كتاب ألف ليلة وليلة العربي، الذي استخدمت فيه شهرزاد الحكايات من أجل مناهضة الموت، واستبعاده.

على أن رواية القصص لا تطفئ حياة الرواة، وإنما نتتبع في الكتاب سيرة حياة هؤلاء الشباب الذين آثروا العيش بعيدا عن أجواء المدينة الموبوءة. هل كان بوكاشيو مبكرا في الدعوة إلى هجاء المدن؟ هل اتخذ الوباء الواقعي ذريعة من أجل العودة إلى نقاء الطبيعة؟ يمكن. لكن أفكار الرومانسية لم تكن قد تبلورت بعد.

الديكاميرون كتاب مهدى إلى النساء، ذلك لأنهن لا يستطعن ممارسة مشاغل الرجال، وربما كان هذا هو السبب الذي دعا الكاتب إلى اختيار بطلاته منهن. يؤكد بوكاشيو احتجاجه على كثير من القيم التي تضطهد المرأة وتحتقر الحب. القيم التي تغلب عليها الخاصة الذكورية، وفي القصة الخامسة من اليوم الرابع (نشير هنا إلى أن جميع القصص في الديكاميرون بلا عناوين) يقتل إخوة لزابيتا حبيبها، فيظهر لها في الحلم، ويدلها على قبره، فتنبشه سرا، وتأخذ رأسه وتضعه في أصيص ريحان وتبكي عليه كل يوم، أو تسقيه بدموعها، ولكن إخوتها يكتشفون الأصيص، وينتزعونه منها، فتموت ليزابيتا حزنا، وألما، واحتجاجا على ذلك.

وفي أيام أخرى من الكتاب، يحتفي بوكاشيو بالحب الباهر، والنهايات السعيدة، ويروي المغامرات التي عايشتها شخصيات من الفرسان والنبلاء من الزمن القديم، لكننا نجد أيضا أبطالا من العامة، ومنها شخصية الفلاحة التي أصبحت زوجة مركيز، فعلى الرغم من اضطهاد المركيز لها، إلا إن معدنها الطيب ينتصر في نهاية الأمر، وتكرم تكريما عاليا، وتمنح مكانة مركيزة.

وكان الكتاب في الوقت نفسه ثورة على الأخلاق السائدة، وقد خلع كثيرا من الشهوانية على شخصياته، ومنهم بعض الرهبان، كما رسم المثل العليا الاجتماعية، للفردية، والنجاح في الأعمال. لكنه لا يشيد بفضائل التجار بل يسخر منها كما في قصص الزمرة الأولى. وفي اليومين الثاني والثالث، يتقدم أشخاص من الناجحين الذين بلغوا أهدافهم: ملوك وتجار وبحارة وأرامل ورهبان إلى مقدمة الحكايات، وقد تعرض بوكاشيو للترهيب من قبل راهب متعصب، إذ هدده بعقاب الله إذا لم يكف عن كتابة الأمور الزمنية، ويتوقف عن هجاء الاكليروس.