مقاربة تاريخية لالتقاء حضارتين

قام بعشر رحلات في الصحراء الكبرى قبل قرن ونصف القرن

TT

لا تزال أعمال المستشرقين الذين حاولوا سبر غور الشرق القديم تحظى بأهمية بالغة لدى الباحثين والمحللين في الدوائر الأكاديمية والبحثية في أوروبا. ويتجلى ذلك في هذا الكم الهائل من الدراسات والأبحاث التي تتناول سيرهم وإنجازاتهم في المجالات المختلفة في سعيهم النهم لمعرفة مكنونات هذا الشرق الغامض والساحر. وجاءت إحدى هذه المحاولات مؤخرا على يد الكاتب الألماني راينر لانجنر حينما قرر اقتفاء آثار أحد الرحالة والمستكشفين الألمان في منتصف القرن التاسع عشر في محاولته عبور الصحراء المغاربية واكتشاف المجهول منها، ورسم خرائط جديدة للمغرب العربي في كتاب يتجاوز كونه كتاب رحلات كلاسيكي.

جاء كتاب «سر الصحراء الكبرى» الصادر حديثا عن دار نهضة مصر بالقاهرة، وترجمه إلى العربية د. محمد سليمان بدر، بمستويات عدة من السرد تجعل منه في نهاية الأمر بانوراما ذات أبعاد تاريخية وسياسية وجغرافية تؤرخ لمسيرة الألماني جيرهارد رولفس(1831 ـ 1896)، باحث الصحراء الذي قام بعشر رحلات في الصحراء المغاربية في الفترة ما بين 1861 إلى 1885حين عبر صحراء شمال أفريقيا في المنطقة الممتدة من جبال أطلس في أقصى المغرب إلى صحراء مصر الغربية مرورا بواحات الجزائر وفيافي ليبيا الملتهبة، تدفعه رغبة جامحة لاكتشاف أسرار ومكنونات الصحراء العربية وصولا إلى عمق القارة السمراء.

وعبر ترحاله من بلد إلى آخر، يرصد رولفس الثقافة المغاربية السائدة آنذاك، أو بالأخرى يعكس رؤية الرجل الأبيض للشرق، تلك النظرة التي تكتسب أهمية خاصة بتزامنها مع بداية عصر الاستعمار الأوربي للبلدان العربية.

يبدو رولفس، المولود في ابريل عام 1831 في مدينة بريمن من اللحظة الأولى متمردا وعنيدا ومتحفظا على شكل الحياة الأوروبي. ورغم كون الطب المهنة الأساسية لأسرته ورغم دراسته له، إلا أنه يتخلى عن كل ذلك، ويهجر الريف الألماني متجها إلى فرنسا ليلتحق بفيلق الأجانب في الجيش الفرنسي راحلا معه إلى الجزائر في عام 1855. وهناك يبدو كمن وجد بغيته، إذ يأسره سحر المكان. ويقع الألماني الأبيض في عشق الصحراء بعدما أغوته الحكايات والأساطيرعن الذهب الذي تمتلئ به مدينة تمبكتو في مالي.

بعدما يترك الجيش الفرنسي يتجه نحو المغرب لإعداد قافلة يرحل بها عبر جبال أطلس. إنها الفتنة بالجديد والغامض أو كما يقول رولفس ذاته «إنه الإغراء بخوض غمار الأماكن المجهولة، أن تعرف شعوبا وعادات غريبة وتتعرف على لغات وتقاليد جديدة، إنه الاندفاع نحو المغامرة والتعلق باجتياز المخاطر، كل ذلك دفعني إلى خوض تلك المغامرة». وقبل بدء الرحلة يعلن ادعاءه أنه دخل في الإسلام ويتخذ لنفسه اسم «مصطفى الألماني» ويمكث في طنجة في حضرة كبير الأشراف سيدي الحاج عبد السلام الذي يوجهه بخطاب إلى فاس حيث قصر السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن الذي يقترح على رولفس أن يكون طبيبه الخاص. ويصف رولفس فاس على هذا النحو: «تضم المدينة بقسميها، فاس القديمة المحاطة بالجبال وفاس الجديدة مائة ألف نسمة، شارع وحيد يربط بين طرفيها، شقه الرومان في الماضي، وزودوه بنظام لقنوات تجري تحت الأرض بعضها لنقل ماء الشرب وبعضها لنقل المخلفات، لكن الفن الهندسي الروماني ذاته لم يستطع أن يحول دون حدوث وباء الكوليرا الذي اختطف عام 1859 من شوارع السلطان 5000 شخص، وهي شوارع غير مرصوفة تمتلئ بالقذارة، يبلغ ارتفاع منازلها المتلاصقة والمظلمة غالبا ثلاثة طوابق».

وفي 14 مارس 1862 ينطلق رولفس في رحلته الأولى لعبور جبال الأطلس بعد أن قام بتجهيز القافلة التي تضم ثلاثة من الخدم وثلاثة من الجمالين وستة جمال إضافة إلى معداته التي جمعها من ألمانيا وفرنسا وهي باروميتر غير زئبقي لقياس ضغط الهواء وترمومتر ومقياس الرطوبة وجهاز قياسات الارتفاع وأسلحة وذخيرة وأدوية و500 جرام من دواء الكينين و50 جراما من الأفيون النقي وخمس جرامات من محلول التقيؤ وبوتاس اليود وسجاجيد وبطاطين صوفية وشاي ورقائق بسكويت ومعلبات طعام. وفي مايو من نفس العام وبعد عبوره سلسلة جبال الأطلس الأوسط والأعلى. يصل رولفس إلى واحات «تفيلة» التي تمتد على مساحة 500 كيلومتر ويقدر رولفس سكانها بحوالي مائة ألف نسمة معظمهم من قبائل البربر الذين لا يفهم لغتهم. ويشعر رولفس بالارتياح، ويبدو مزهوا فيما بعد بأنه أول أوروبي يجتاز تلك الجبال الأسطورية بكامل اتساعها. وعندما عاد إلى ألمانيا بعد نهاية رحلته سلم الخرائط التي رسمها إلى أحد كبار الجغرافيين الألمان آنذاك وهو هينريش بيترمان الذي اعترف بقيمة رسومات وخرائط رولفس وأعطاه بذلك شهادة وصك اعتراف بأنه أحد كبار الرحالة والمستكشفين الألمان في عصره.

وبعد الاحتفاء الألماني به يعود رولفس مجددا إلى الشرق غير أن هذه المرة يتجه صوب طرابلس الليبية رغبة في عبور الصحراء باتجاه بحيرة تشاد عبر غدامس التي تبعد أربعة أسابيع عن طرابلس ثم يرحل بعدها إلى مملكة بورنو ويدخل عاصمتها كوكاوا محملا بالهدايا إلى حاكمها، ثم ما يلبث أن يغادرها متجها إلى لاجوس ليصلها في يونيو 1867، كان على مصب نهر النيجر اثنان من الإنجليز حييا رولفس بضربة من يديهما، ولم يكن بمقدورهما أن يصدقا أن القادم الجديد يقف أمامهما بعد عبوره الصحراء الكبرى وأنه وصل إلى هنا قادما من البحر المتوسط لا من الأطلنطي.

تحتفي أوروبا مرة أخرى بذلك المغامر الجسور ويتم نشر جميع وثائقه في كتاب حمل عنوان «عبر أفريقيا» لاقى اهتماما كبيرا من الجمهور الألماني المتعطش لمعرفة أسرار الشرق الغامض. ويصل رولفس لذروة مجد حياته كونه وصل لقمة إنجازه المهني كرحالة لافريقيا، خاصة بعد رحلته الأخيرة في الصحراء الليبية بين عامي 1873 و1875 وعبور الصحراء الغربية بتمويل مصري من الخديوي إسماعيل حتى يصل إلى واحات الكفرة الليبية. حينئذ اختاره المستشار الألماني بسمارك قنصلا عاما لألمانيا في زنجبار، إلا أن طريقة أدائه وانحيازه للسكان المحليين على حساب الصراع الأوروبي في المنطقة تعجل بعودته إلى ألمانيا مصحوبا بفشل ديبلوماسي وسياسي لم يواجهه في صراع البقاء بينه وبين الصحاري والفيافي.

تكشف قراءة المؤلف لانجنر لمذكرات الرحالة رولفس عدة مستويات من القص، فبعد السيرة الشخصية لرولفس التي لا يمكن فهمها دون النظر لرؤية أوروبا للشرق في ذاك الوقت، يكشف لانجنر عن دهشة الأوروبي قبل قرن ونصف القرن تقريبا من الصحراء وعالمها الخاص، لذلك جاءت الصحراء أحد ثلاثة موضوعات رئيسية حفل بها كتاب لانجنر، الذي مال لذكر التفاصيل الدقيقة عن حياة الصحراء ومخلوقاتها بإسهاب يعكس دهشة أوروبيي الألفية الثالثة أيضا. بدا ذلك جليا في حديثه عن تكوينات الصحراء وتضاريسها الجيولوجية وخواصها الجوية كالرياح الصحراوية وأسمائها ومواسمها، واستراتيجية البقاء للحيوان والنبات في تلك الظروف.

إن رؤية رولفس للشرق في مذكراته تبدو انعكاسا لحالة العالم آنذاك. فقد جاء إلى الشمال الأفريقي في بداية عصر الاستعمار الغربي للبلدان العربية، وبدأت علاقته به من خلال العسكرية وانضمامه إلى فيلق الأجانب التابع للجيش الفرنسي الذي تمركز في الجزائر من عام 1831، وعندما دخل رولف الجزائر عام 1855 كان يعيش فيها 160.000مدني فرنسي ويجمل رولفس رؤاه التي نضجت أثناء الحرب الاستعمارية الفرنسية فيقول: «ليت الفرنسيين اتبعوا منذ بداية غزوهم مبدأ طرد العرب وربما البربر معهم أيضا إلى الصحراء، حيث موطنهم الأصلي، وتركوا بذلك أرضا خالية تغرس فيها الحضارة والقيم الغربية، ففي مثل تلك الظروف كان يمكن للجزائر أن تستوعب بضعة ملايين من الأوروبيين بدلا من بضع مئات من الآلاف».

تعج مذكرات رولفس بهذه النظرة الاستعلائية للشرق، كما لم يغب عنه انتقاده للسكان المحليين على عداواتهم لكل ما هو أوروبي ومسيحي فضلا عن موقفه من (الحريم) تلك النظرة التي لم تتغير طيلة عشرة قرون مضت بدءا من تصوير المعاناة والقهر الذي تلقاه المرأة في الحرملك السلطاني إلى تخصيص قسم كامل ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير بعنوان تمكين المرأة، لم تتغير الرؤية قط بل تغيرت الوسائل فقط! من هنا تبرز أهمية مذكرات الرحالة رولفس التي كتبها في منتصف القرن التاسع عشر، كونها تعكس التشابه الواضح والساخر مع الحاضر! إنها تلك اللحظة التي تصف التقاء حضارة بحضارة أخرى، غير أنها تسعى لنفيها عمدا أو جهلا.