«الشرق الأوسط» تنشر مقطعاً من رواية مجهولة للشاعر محمد الماغوط

بمناسبة ذكرى رحيله الأولى «غرام في سن الفيل» تصدر قريباً في كتاب

TT

اطلق محمد الماغوط على باكورة رواياته ـ التي تستعد لتبصر النور، عنوان «غرام في سن الفيل» لسببين، اولهما انه، عادة، ينتقي لمؤلفاته اسماء طريفة، والثاني ان زياراته كانت متواصلة الى احد زملائه الصحافيين الذي كان يقطن في بلدة «سن الفيل» الواقعة في احدى ضواحي بيروت الشمالية. كان الماغوط غاطسا لما فوق اذنيه في السياسة. ولعلّ قراء المنتدى يذكرون ما نشرته عنه بمناسبة وفاته منذ اقل من عام، حول الدعوى التي حرّكها ضده الوزير الراحل عبد الله المشنوق، وكان من نتائجها صدور حكم ظالم يقضي بحبسه لمدة ثمانية عشر شهراً وتغريمه بمبلغ اربعمائة ليرة لبنانية لم يكن يملك منها اربعمائة قرش. ولم تشذ الرواية عن قاعدة السياسة التي اتبع فيها الكاتب نهجا مناهضا للشيوعيين والناصريين والبعثيين. ولكنها لم تكن مجرد مقال سياسي طويل. فقد حرص الماغوط على صياغتها وفق اصول كتابة الروايات، سواء في توزيع مضمونها على مقدمة وخاتمة وعدة فصول، حيث يتألف كل فصل من عدة مقالات، او لجهة مجانبة المباشرة والخطابية، اضافة الى ان الافكار والاحداث لم تكن سياسية بحتة، بل ان كفّة الفن والادب فيها كانت راجحة. وبعبارة اخرى، فإن الماغوط حاول في روايته هدم المفاهيم العتيقة والسائدة آنذاك على كل الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، والتلميح بمفاهيم جديدة شاملة وحضارية. لذلك، هو لم يكتفِ في الفصل الثالث مثلا، بمحاورة الزعيم السياسي الشيوعي ستالين، بل حاور ايضا الموسيقار الالماني بيتهوفن. وخلال حواره مع مبدع السمفونيتين الخامسة والتاسعة الخالدتين، انتقد بقسوة بعض فناني مصر ولبنان، من غير ان يكون اسم فيروز بينهم، باعتبار انها تحتل رأس لائحة المطربات المبدعات في ميزان نقده. لعب «سومر» دور البطولة في الرواية. وهذا يعني ان الماغوط نفسه هو بطل روايته. أوليس «سومر» هو احد اسماء الماغوط المستعارة؟ يبقى ان الماغوط كان في الرواية، اسوة بسائر ابداعاته الشعرية والمسرحية، متشائما من امكانية التغيير نحو الافضل والاجمل في العالم العربي. لذلك ختم روايته بالعبارة التالية: «ولكنني وصلت في تلك اللحظة الى مكان تبين لي انه قريب جدا من سطح الكرة الارضية، من كثرة الضجيج والتزمير فوق رأسي. وعرفت انني تحت ساحة الدباس (1) مباشرة. فأخذت اقرع الارض بقبضة يدي صائحا: يا بني البشر، يا نقيب الصحافة، يا ادونيس (الشاعر) اريد ان اخرج من هنا. وكان الظلام يحيط بي وحيدا شريدا. فجلست على الارض واخذت افرك عيوني وحواجبي بقسوة، وهنا (جيت فايق). واذ كل ما جرى حلم من الاحلام الذهبية». وهنا، مقطع يحمل عنوان «لقاء مع بيتهوفن»، من رواية «غرام في سن الفيل».

* لقاء مع بيتهوفن

فعلاً غضبت من ستالين، عندما سألني عن «اسرائيل» وقد تمنيت في تلك اللحظة ان اكون قائد مصفحة او سائقا في إحدى حافلات الاحدب (2)، وان يكون ستالين، ولينين، وماركس، يلعبون على الطريق لاسحقهم، واسحق الشيوعية من اساسها. ولذا خربطت شعري، واخذت اركض في اعماق الارض، لا الوي على شيء، وقد التقيت في طريقي، بكثير من الشخصيات الفكرية امثال المتنبي، ومحمد البزم (3)، ولكنني لم آبه لهم ابدا، لأنني كنت في حالة من الغليان لا توصف، ارغي وازبد مثل فايزة احمد (المطربة)، على الشيوعية، والشيوعيين، والعالم باسره. وقرعت باب «عزرائيل» بكتفي، بهدوء فألفيته، حانقا جدا. فكلمني بهدوء... وسألني بعصبية: اين كنت حتى الان؟ لقد سمعت صراخك مع ستالين الى هنا، ثم كيف تسمح لنفسك بان تعذبه بهذا الشكل، وهو بعمر «ابوك»؟ ثم ان هناك عدة اشخاص ميتين يريدون مقابلتك، اذكر منهم الخديوي، وهتلر، وبيتهوفن. وما ان سمعت ذلك، حتى تغديت بسرعة، وأخذت اهرول اكثر من ساعة بحثاً عن بيتهوفن، ولكن دون جدوى. فرجعت وتغديت مرة ثانية من قهري، واخذت اعدو باتجاه احدى الحانات، قيل لي ان بيتهوفن لا يفارقها. وما كدت اصل اليها، حتى اعترضني المتنبي صارخاً: سومر... سومر. ارجوك، ان تقف قليلاً، اريد ان ابعث معك رسالة الى يوسف الخال ـ مؤسس مجلة شعر ـ ارجوك، فأومأت له بصدري ان لا وقت لدي، لأنني ذاهب لمقابلة بيتهوفن.

وفي حانة جميلة منعزلة، رأيت بيتهوفن حانقاً على المجتمع، ويرتجف من البرد، ويشتم بكلمات غير مفهومة، فبادرته قائلاً: من تشتم يا هذا؟ ولماذا انت مكفهر؟ فنظر الي نظرة انبوبية صاعقة، وقال: اشتم مشروع الليطاني(4) منذ سنوات، ونحن ننتظر تنفيذ هذا المشروع، علّنا نتخلص من هذه المياه التي تتسرب الينا من سطح الكرة الارضية، ارجو ان تبلغ هذا الاستاذ سليم لحود (5) من كل بد. فطمأنته على ذلك، واردت ان اقعد بجانبه، فصرخ كالملسوع.. لا تجلس على الكرسي اجلس على الارض ـ فاستغربت هذا القول من بيتهوفن وقلت له: ولكن ارجوك معي «ديزانتري» (6) ولا استطيع ان اجلس على الارض، لان لي معك حديثا «طويلا عريضا»، ثم اسأل صيدلية ابي عجرم (7) اذا كنت لا تصدقني. فأجابني متذمراً: اذن هيا انهض عن الارض. ولكن لا تجلس على الكرسي كله. وهيا حدثني عن الفن والموسيقى بعدما صعدت روحي الى السماء بصوت منخفض لان المكتب الثاني الشامي يراقبنا.

فهززت رأسي قليلاً من الزمن. وقلت له على مضض. عن ماذا احدثك يا اخي في العروبة؟ ان الفن في بلادي اصبح مهزلة. هل احدثك عن حليم الرومي؟ ام عن محمد الموجي؟ ام عن سامي الصيداوي (8) ارجوك لا تثر ذكرياتي.

وما ان سمع مثل هذه الاسماء حتى صرخ بي قائلاً كالملسوع: ماذا تقول لافراخ بذي مرخ؟

قلت انها الحقيقة يا سيدي. فهل تريدني بعد ذلك ان احدثك عن سنفونيات السد العالي، والاسمدة الكيميائية؟ الاغاني الخالدة التي الفت بعد حرب السويس؟

لا تنظر اليّ مثل هذه النظرات المقلوبة. وانا معك بان الفن يجب ان لا ينحدر الى هذا المستوى الحاطم، ولكن ما العمل اذا كانت اغلب الاغاني تلحن في وزارة الدفاع، او في غرف التحقيق؟ فقاطعني: طبعاً تتحدث عن الفن في «الجمهورية العربية المتحدة». فقلت: طبعاً.. طبعاً!

فصمت قليلاً ثم سألني: طيب يا سومر، وما هو هذا السد العالي؟ لقد قرأت عنه في بعض الصحف؟ قلت له يا سيدي انه عبارة عن سد عال، من الاسمنت والحديد، وهو طويل جداً، سيجعل مياه النيل اكثر صفاء من الكولونيا.

طيب، طيب ولكن ما علاقته بالفن والموسيقى؟

يا سيدي بعد «الوحدة» صدرت اوامر غير منظورة الى الملحنين، تحظر عليهم التجول ليلاً في سماء الالحان العاطفية، والوجدانية، وفرضت عليهم مراقبة دقيقة، لا تفرض عادة الا على مهربي الحشيش، لا اعرف يا سيدي، على كل حال اسأل احمد سعيد (9).

فصرخ مرة ثالثة، اي احمد سعيد؟ وأي احمد تعيس هذا؟ ألم يظهر في هذا العالم، موسيقار خالد بعدي؟ اجنبي! ولا تقف امامي كالابله، هيا، وصفعني على خدي بقوة.

قلت سيدي: سأجيبك عن كل سؤال، ولكن لا تعاملني هكذا كأنك من عائلة المهداوي (10).

نعم لقد برز في العالم العربي، موسيقار عظيم له ألحان خالدة، ومنتشرة في كل مكان اكثر من ألحان الدانوب الازرق، وهي ذائعة الصيت، ومنتشرة بشكل مرعب، في المدارس، والحقول والسجون، انه الموسيقار العظيم برهان ادهم (11)، ومن اجمل قطعه «رقصة الشعب في المزة» ولقد رقي على اثرها رتبة لانه استطاع ان يدمج فيها الفأس مع المامبو. وهنا اخذت ابكي بمرارة، وختمت حديثي صارخاً: عن ماذا احدثك؟ يا سيدي؟ ان شادية (المطربة المصرية) محترمة ومحبوبة الآن بين الجماهير اكثر من ابن سينا. فقاطعني قائلاً: سومر هل انت «تؤنكل» (تمزح) معي؟ ام هو الواقع؟ .

انه الواقع، والنازل يا سيدي. ولكن هذا لم يمنع من ظهور بعض الاغنيات الخالدة، التي ترددها جماهيرنا الآن في هذه الظروف المعاصرة، امثال «جينا وجينا، وجينا، جبنا العروس وجينا» و«الحد ـ نهار الاحد ـ عملنا تبولة» للموسيقار الخالد محمد سلمان. وما ان سمع بذلك، حتى خبط الطاولة بقبضة يده، وصرخ: الى الجحيم هذا العالم بأسره. لقد تعذبت وجعت عشرات السنين. وقضيت عمري كله وانا «اعزب» من اجل الفن، والموسيقى وبعث روح الالوهية في الانسانية كلها، ليأتي امثال محمد سلمان، وكمال الطويل، وغيرهم من رواد الموسيقى العربية، ليعبثوا بالفن، ويعذبوه ويسحلوه بهذا الشكل، كأنه خائن، او عميل استعمار؟ الا ليت الشباب يعود يوماً، او يومين فقط.

1 ـ القسم الشرقي من ساحة الشهداء في بيروت، حيث يعتصم جزء من المعارضة اللبنانية. والماغوط كان يقيم في احد الفنادق الشعبية هناك.

2 ـ والد النائب مصباح الأحدب. كان يمتلك اسطولاً من الحافلات العملاقة المتنقلة بين طرابلس وبيروت.

3 ـ شاعر كلاسيكي دمشقي، انتقده الماغوط بقسوة.

4 ـ عارضت اسرائيل هذا المشروع الذي استثمر مياه النهر الجنوبي للري والكهرباء، ويرجح انها قتلت المهندس ابراهيم عبد العال الذي وضع خطة الاستثمار.

5 ـ نائب ووزير سابق، ووالد النائب السابق نسيب لحود. تولى مسؤولية ادارة مشروع الليطاني بعد استشهاد عبد العال.

6 ـ مرض معوي.

7 ـ كان يمتلكها رئيس المجلس الاعلى في الحزب القومي فؤاد ابي عجرم. والماغوط كان عضواً في هذا الحزب عندما كتب الرواية.

8 ـ مطرب لبناني.

9 ـ المذيع الشهير في محطة «صوت العرب» المصرية، وقد اشتهر بالمبالغات والعنتريات.

10 ـ فاضل المهداوي الذي ترأس المحكمة العسكرية اثر الانقلاب على العهد الملكي في العراق، واشتهر بالقسوة والتهريج.

11 ـ ضابط مخابرات سوري في الخمسينات من القرن الماضي.