مؤرخ إسرائيلي يؤكد أن «فرية الدم» حقيقة ويتراجع تحت الضغط

أرئيل تواف نشر بحثه في كتاب ثم أوقف توزيعه

TT

ما الذي يجعل باحثاً أكاديمياً في التسعينات من عمره يتراجع عما توصل إليه من نتائج دراسات عمل عليها طوال سنوات، بعد أن كان قد أكد انه سيدافع عنها حتى لو تم قتله؟

هذا السؤال، وغيره، يمكن أن يثير فضول الذين تابعوا قضية المؤرخ الإسرائيلي ارئيل تواف، الأستاذ في جامعة بار إيلان الإسرائيلية اليمينية، الذي وجد النيران تصوب إليه من اكثر من جهة يهودية في العالم، رغم كونه يهوديا وإسرائيليا.. والسبب انه خاض في موضوع، لا يجرؤ أحد على التطرق إليه، حتى لو كان يحظى بمصداقية أكاديمية. انها قضية «فرية الدم» التي يعتبر اليهود أن كل كلام عنها هو نوع من معاداة السامية.

بدأت قضية الباحث الإسرائيلي أرئيل تواف، أثناء وجوده في إيطاليا، التي يحمل جنسيتها إلى جانب الجنسية الإسرائيلية، بمناسبة صدور كتابه الجديد الذي حمل عنوان «الفصح الدموي» باللغة الإيطالية.

وبثت القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، ونشرت الصحف، بعض ما جاء في الكتاب والمتعلق باستخدام جماعة من اليهود الغربيين (الاشكناز) في أوروبا، في القرون الوسطى، دماء الأطفال في صنع الفطائر التي يتناولها اليهود في عيد الفصح، والتي تكون خالية من الخميرة.

وكما هو واضح فإن تواف تطرق إلى موضوع بالغ الحساسية، يطرح عادة في الأدب الشعبي أو الكتب الصفراء عن اليهود، ولا تتساهل إسرائيل معها أبدا. وتزخر الصحف الإسرائيلية بشكل يكاد يكون يوميا برصد ما تطلق عليه مظاهر معاداة السامية في العالم، ومن بينها مثل هذه المواقف التي تروج عن اليهود. ولكن إسرائيل وجدت نفسها هذه المرة أمام باحث مختص وإسرائيلي ويهودي، يقول إنه توصل إلى نتائج بعد سنوات من البحث فيما يخص ما يطلق عليه «فرية الدم» الشائعة ضد اليهود في أوروبا، مؤكدا ان لها أساسا من الصحة.

واعتمد تواف، في كتابه، على فحص وإعادة النظر في وثائق عديدة حول قضية مقتل الفتى سيمونينو مترانتو في العام 1475م، وقال انه لا يتهم جميع اليهود الاشكناز بممارسة طقوس الدم، وانه لا يقصد أن الديانة اليهودية تبرر ذلك، ولكنه على يقين بوجود مجموعة متطرفة منهم مارست ذلك، وأنه توصل إلى نتائجه من خلال استقصاء تاريخي، وإعادة دراسة ملف الفتى سيمونينو مترانتو، ومحاكمة قتلته الذين اتهموا باستخدام دمه في الخبز من غير الخميرة المخصصة للفصح. ويقول تواف انه تم استخدام دماء الأطفال في عيد الفصح، وقد عثر على ما يدل أن حاخامات يهوداً آنذاك سمحوا باستخدام دماء الأطفال لما لها من ميزات.

واشار تواف إلى انه منذ عام 2001، وهو يدرس الموضوع، وعقد مقارنات تاريخية ولغوية، في ملف محكمة الفتى، جعلته يتوصل إلى ما توصل إليه، مؤكدا انه باحث وأكاديمي وليس طالبا لأي شهرة.

وحاول تواف أن يربط هذه الممارسة بالثقافة المنتشرة في تلك الفترة، مشيرا إلى أن الدماء البشرية كانت تدخل في صناعة الأدوية، كما يظهر من ملفات المحكمة، حيث توجد إشارة إلى تاجر يبيع «سكر ودماء» في مدينة البندقية.

* صدمة يهود العالم

ويمكن توقع حجم الصدمة التي أثارتها النتائج التي توصل إليها تواف، في كتابه، في إسرائيل ولدى الجماعات اليهودية في العالم. وقد اعتبر هؤلاء أن كتاب تواف، يبرر ما أسموها الاعتداءات التي تعرض لها اليهود على مدى قرون في أوروبا، ومن بينها الجرائم النازية والهولوكوست.

وتوجهت الأنظار إلى جامعة بار ايلان، التي آخر ما كان متوقعا أن يخرج منها أكاديمي، يعود إلى القرون الوسطى، ليبعث من جديد مسألة «فرية الدم» التي يعتبر الحديث عنها وتبنيها جريمة في دول أوروبية.

ولم يطل انتظار ردة فعل الجامعة، فأعلن رئيسها، الذي قال إنه لم يقرأ الكتاب، بأنه أرسل في استدعاء تواف، من الخارج، ليقدم شروحا حول موضوع كتابه.

وعبر عدد من مسؤولي الجامعة عن غضبهم الشديد من كتاب تواف، واصدرت إدارة الجامعة بيانا جاء فيه انه كان على تواف أن «يتحلى بمزيد من الحذر والحساسية في نشره الكتاب». وقال البيان إن الجامعة تتحفظ بشدة على ما جاء في كتاب تواف الذي يدرّس تاريخ العصور الوسطى وعصر النهضة فيها، وأنها أدانت وتدين أي محاولة لتبرير أي تشهير ضد الشعب اليهودي، وأنها تنتظر عودته وسماع رأيه قبل اتخاذ أي موقف ضده.

وأصدرت جمعيات يهودية بيانات نددت بتواف وكتابه، وهاجمته الجالية اليهودية في إيطاليا هجوما غير مسبوق. وقال عدد من الحاخامات إنه لا يوجد في الديانة اليهودية ما يسمح باستخدام الدماء البشرية في الطقوس الدينية.

وعلى الرغم من الحملات القاسية والشديدة ضده، إلا أن تواف أصر على موقفه، واستعد للنضال حتى النهاية، إزاء هذه الهجمة عليه، وقال «حتى لو صلبوني، فإنني سأبقى وفيا لحرية البحث الأكاديمي، ولن اتراجع». وحاول أن يوضح بأنه لم يكتب الكتاب من موقف معاد لليهود، أو لانه يجري وراء ربح أو شهرة، ولكنه نبش في الماضي لأنه يعتقد بان التطرف لم يجلب لليهود إلا الكوارث، والتهم الجاهزة التي تلاحقهم.

* تراجع سريع

من قرأ دفاع تواف عن نفسه، في الصحف الإسرائيلية بعد الأزمة، وإصراره على موقفه، «حتى لو صلبوني» كما قال، يستغرب تراجعه السريع. فبعد يومين أو ثلاثة من موقف التصلب اصدر بيانا اعتذاريا مصحوبا بقرار وقف توزيع كتابه، وبرر ذلك بأنه كي لا يتم استخدام ما جاء في كتابه من قبل معادي السامية لتبرير اعتداءاتهم على اليهود.

واعرب تواف في بيانه عن اسفه العميق مما اعتبره «تشويهات» لما جاء في الكتاب وقال «اتقدم بخالص اعتذاري إلى جميع من تأذوا من الوقائع التي وردت في كتابي».

واضاف «بعد التأويلات الخاطئة والمشوهة لكتاب صدر لي حديثا، طلبت من دار النشر الإيطالية (ايل مولينو) وقف توزيعه فورا حتى أتمكن من إعادة صياغة المقاطع التي تم الاستناد إليها لبث الأكاذيب عبر وسائل الإعلام». وقال انه صدم بما وصفها «ضخامة هذه التأويلات التي حولت الدراسة إلى وسيلة للتهجم على اليهودية والشعب اليهودي ولتبرير القتل في إطار طقوس دينية، لا سمح الله». وقال «أعرب عن بالغ أسفي بشأن الادعاءات الكاذبة التي نسبت إلي وآذت الشعب اليهودي»، واعلن انه سيتبرع بريع توزيع كتابه لرابطة مكافحة التشهير باليهود. ما الذي غير موقف تواف، وجعله لا يستطيع الصمود والدفاع عن كتابه، فأعلن وقف توزيعه، ونيته تعديله، قبل السماح بنشره مرة أخرى؟

وهل بقيت محرمات في هذا العالم المفتوح، يحظر على الباحثين التطرق إليها؟ أم للمسألة علاقة بنشاط الجماعات اليهودية في العالم التي تراقب وتنظم حملات ضد ما تعتبره أفكارا معادية للسامية، حتى لو كان ذلك بحثا علميا لمؤرخ وأكاديمي يهودي وإسرائيلي؟