في الانتخابات الرئاسية ها هي الإنتلجنسيا الفرنسية تميل يمينا وتتبجّح

المثقفون وإغراءات الحلول السريعة

TT

سنة 2002 أصدر المؤرخ والمفكر الفرنسي دانييل ليندنبيرغ Daniel Lindenberg, كتيبا هاماle Rappel à l"ordre de تحقيق حول الرجعيين الجدد، أثار العديد من الجدل في أوساط الأنتلجنسيا الفرنسية. يكشف فيه أن ورثة جان بول سارتر جنحوا يمينا، وأصبحوا لا يتحرجون من التصريح بأقوال يمكن أن يهتز لها سارتر في قبره.

حين صدر الكتاب تعرض لهجوم قاس من المعنيين بالاصطفاف في اليمين والرجعية. قيل حينها بأن المفكر ليندنبيرغ رجل حريص على الشهرة، وبأن أقرب طريق للوصول إليها هو التعرض لمفكرين كبار. لكن الانتخابات الحالية ستزيد من هذا الاصطفاف وسترينا الكثير من المفاجآت، وستظهر كم كان الكتاب الصغير نبوءة في طور التحقق، الآن.

في خضم انتفاضة الضواحي الفرنسية (نوفمبر 2005)، أعلن ساركوزي عن إعجابه بمفكره وفيلسوفه المفضل ألان فينكلكروت Alain Finkielkraut واصفا إياه بـ «شرف الذكاء الفرنسي». حدثت أشياء كثيرة بعدها، وكلها ساهمت في التقريب بين القلبين، كما يقال. إذْ ان المفكر سيخص صحيفة إسرائيلية بحوار يشن فيه هجوما ساحقا على المنتخب الفرنسي لكرة القدم واصفا إياه بأنه «تجميع لألوان بشرة ليس إلاّ»، ومتهما غير الفرنسيين، يقصد بالطبع العرب والسود، بأنهم وراء الأحداث والفوضى. سيتفتق ذهنه عن حكمة بليغة سيكررها ساركوزي لاحقا في مؤتمراته الهستيرية: «من لا يحب فرنسا يجب أن يغادرها»، وكأنه الوحيد المتحدر من أصول أجنبية ويحب هذا البلد.

وها هو مؤخرا يخرج عن صمته ليعلن انضمامه إلى نيكولا ساركوزي، معللا الأمر، وكأنه يحتاج إلى تبرير: «على كل حال، إن ساركوزي ليس هو الرئيس الإيراني أحمدي نجاد».

المثقفون الفرنسيون غاب صوتهم تماماً، بعد تصريحات ساركوزي المستفزة للسود والعرب وطرد الأسر التي توجد في وضعية غير قانونية وتصيد أولادها في المدارس، على الرغم من احتجاحات ضمير فرنسا الذي غادرنا منذ فترة قريبة ونقصد القس بيير (لابي بيير). هؤلاء المثقفون حلت محلهم جماعات ضغط من فنانين ورياضيين، أمثال جمال دبوز والرياضي تورام والمغني جُووي ستار وغيرهم، طالبت أبناء الضواحي بالتسجيل في القوائم الانتخابية للتصويت في الانتخابات القادمة.

لم يكن فينكلكروت وحده من سجّل هذا الانحراف نحو اليمين، لكن في شكله الأكثر ديماغوجية وتطرفا، بل سرعان ما انضم إلى جوقته أحد ممن سموا أنفسهم بالفلاسفة الجدد، الذين كانوا محط سخرية الفيلسوف الراحل جيل دولوز Giles Deuleuze، وهو أندري غلوكسمان André Glucksmann ثم تبعه الكاتب الصهيوني باسكال بروكنير Pascal Bruckner، واخيرا، وهنا المفاجأة أيضا، انضم إلى الجوقة المؤرخ الذي كان إلى وقت كبير من أنصار الرئيس فرانسوا ميتران وبيار شوفنمان وهو ماكس غالو Max Gallo.

هل ثمة محاولة سرية من قبل رجالات ساركوزي لإغواء وإغراء المثقفين اليساريين، بالانضمام إلى حملته؟ ينفي المقربون من ساركوزي الأمر، لكن بعض اليساريين الذين تمت مصارحتهم بالأمر يؤكدون وجود هذا الإغواء «السياسي»، عبر الهاتف، وهو ما صرح به الناشران أوليفييه نورا ومارين سيلل.

ثمة تساؤل يطرحه الملاحظ لمشهد انبطاح المثقفين وتهافتهم على الظهور مع الساسة وهو: ما هي درجة تأثير المثقف على قرار الناخب؟ بالطبع ثمة من يجيب عن حق بأن تأثير فينكلكروت لا يساوي تأثير بعوضة مقارنة بتأثير شخص من وزن الرياضي زين الدين زيدان أو من وزن مغنية الرّاب ذات الأصول الكريتية (جزيرة كريت) دْيامْسْ Diam_s.

الحالة الآن، وبعد رحيل الفيسلوف جاك ديريدا والمؤرخ فيدال ـ ناكي، تظهر وكـأن الجوّ خلا لمجموعة من «الإنسانويين الرجعيين» الذين يؤمنون بِمَقْدَم رَجُل قادر على إيجاد الحلول لكل المشاكل على غرار ما كان سائدا سنة 1958. ولا يستمعون بالفعل إلى ما يتفوه به المرشح ساركوزي، إلى درجة أن تيري بيش، وهو من المتخصصين في عالم الضرائب يصرح بأنّه يجد في ساركوزي «مرشحا ثرثارا ومثيرا للزعيق، لم أعثر لحد الساعة في كلامه على برنامج. لا تجد عبارة واحدة في خطاب ساركوزي لا تبدأ بالجملة التالية: «أريد أنْ ...». ليس معنى هذا أن المثقفين اليساريين، كلهم قد انضموا إلى ساركوزي. لكن العديد منهم لا يرون في مرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين رويال المرشحة المثالية والقادرة على مواجهة الجموح اليميني نحو «سياسة تشبه سياسة الإيطالي بيرلوسكوني»، وهو رأي المؤرخ الفرنسي الجزائري بنيامين ستورا Benjamin Stora.

لا تزال المرشحة الاشتراكية تعاني من متاعب البدايات. بدايات الدخول في الحملة الانتخابية. ارتباكات وأخطاء وسوء تقدير. كل تصرفاتها أصبحت تحت عدسة الكاميرات غير البريئة. زيارتها للصين كادت تصل إلى كارثة، إجابتها المترددة على نائب لحزب الله في بيروت كادت تقضي على شعبيتها وسط الناخبين اليهود، الذين كانوا تقليديا يصوتون لليسار، وأصبحوا يتأرجحون بين اليسار المتذبذب وساركوزي الذي لا يخفي تعاطفه الكبير جدا مع إسرائيل ويَسْخَر من كلّ سياسات فرنسا العربية. وها هو يعين محاميا إسرائيليا (حرص على أداء الخدمة العسكرية أمام الكاميرات في الضفة الغربية المحتلة، ولا يتوقف عن دعمه اللامشروط لإسرائيل) مستشارا له، ويزور مجموعة الضغط الصهيونية في واشنطن «أيباك» ويخص إسرائيل وحدها بالزيارة عشية انتخابه رئيسا لأكبر حزب يميني فرنسي.

الخطر، في نظر ما تبقى من أهل اليسار، داهِمٌ إذا وصل ساركوزي إلى السلطة. سيجعل فرنسا ذات نزوع أطلسي متأمرك وسيقضي على كل مكتسبات الطبقة العاملة الفرنسية بدعوى تشجيع العمل. ومن هذا المنطلق لم يتورع الفيلسوف إتيان باليبار Etienne Balibar والأنثروبولوجي فرانسوا هيريتيي Francois Héritier عن المطالبة بالتصويت لصالح رويال من الدورة الأولى. يعود إذن كتاب «لاندينبيرغ» المُدين لانحرافات مثقفي اليسار المتطرف سابقا نحو اليمين، للواجهة، وهو ما دفع جاك ألان ميلر Jacques-Alain Miller أهم المحللين النفسانيين في فرنسا وأحد أقرباء جاك لاكان Jacques Lacan للإقرار بالأمر: «لقد كان لاندينبيرغ على حق، أنا الذي كنت لا أرى شيئا».

ليس من المستغرب أن نجد المرشح ساركوزي محاطا بالعديد من المثقفين (رومان كوبّيل وبروكنير والوزير الاشتراكي السابق كوشنير وغلوكسمان، إلخ) الذين أيدوا بقوة غزو واحتلال العراق، وتباكوا ولا يزالون على «مأساة دارفور» والبوسنة والشيشان، ولكنهم لم يفعلوا شيئا إزاء المأساة الفلسطينية. لقد انتهى بالفعل ذلك الزمن السّعيد الذي كان فيه جان بول سارتر يناضل ضد التعذيب ومن أجل استقلال الجزائر وفيتنام، مازجا الوجودية والماركسية في عجينة قادرة على إرباك أكبر شخص في فرنسا وهو ديغول. أصبح فينكلكروت يتحدث، مثل نواب البرلمان الفرنسي اليمينيين، عن الدور الإيجابي الكبير للكولونيالية، مثلما يتحدث الماويّ السابق فيليب سوليرز، في انتقاد شرس لليسار وميل صارخ نحو اليمين، بعد تقبيله ليد قداسة البابا جان بول الثاني، عن «فرنسا المتعفنة».

يلخص المفكر والديموغرافي الفرنسي إيمانويل تود Emmanuel Todd بكثير من الأسى الوضع الحالي في فرنسا بالقول: «الفراغ الثقافي في فرنسا وصل إلى مستويات مذهلة»، ويضيف «أحتقر هؤلاء المثقفين الذين ينضمون إلى وغدٍ من طينة ساركوزي، ولكننا وصلنا إلى فوضى أيديولوجية بحيث أصبح من العادي أن يفقد البعض عقله». ولأن فرنسا فقدت أهم مثقفيها الكبار، فلن نعثر على بيير بورديو وجون بودرييارد وغيرهما وهم يمنحوننا بارومتر نوايا الانتخاب.

بالطبع ساركوزي ورويال ليسا وحدهما في الحلبة، ثمة مرشحون آخرون، وخصوصا من اليسار، ومن بينهم مرشحو ثلاثة أحزاب تروتسكية وحزب الخضر والحزب الشيوعي وحزب عولمة مغايرة وهو ما يمنح بعض المثقفين اليساريين فرصة عدم التصويت، من البداية، لسيغولين رويال التي يعتبرونها لا تختلف كثيرا عن ساركوزي في النزوع الليبرالي وفي ميولها الأخلاقية التقليدية. من بين هؤلاء الفيلسوف اللامع ميشيل أونفراي Michel Onfray الذي يطالب بالتصويت للنقابي جوزيه بوفيه José Bové ويكتب: «أومن بالواقع وبحقيقة صراع الطبقات، ولا أمنح صوتي إلا لمن يعرفون بأن عالَم الناس البسطاء ليس خيالا...».

شيء عن النحن «العرب والمسلمين»

لا يوجد، بعدُ، مثقفون يمكن أن يوصفوا بأنهم فرنسيون من أصول عربية، ونقصد الجيل الثاني أو الثالث. السوق الفكرية تعج بمثقفين أتوا إلى فرنسا في فترة متأخرة من حياتهم، وهم، بالإضافة إلى كونهم لا يؤثرون كثيرا، يتأرجحون في الغالب، بين اليمين واليسار. وإن كانت بعض أفكار ساركوزي الليبرالية وخصوصا «فكرة التمييز الإيجابي المستوردة من الولايات المتحدة» تراود عقولهم... نجد هذا الوَقْع يُغازل العقول والأطر المنحدرة من الهجرة والتي خاب ظنها في سياسات اليسار الحالمة وغير الواقعية. ولكن هفوات ساركوزي، وخصوصا رسالته «الانتخابية جدا» الداعمة لصحيفة «شارل إيبدو» التي نشرت صورا مسيئة للرسول محمد (ص)، ربما تخيفهم وتقلل من حماسهم اليميني.

نفس الوضع نجده لدى الجمعيات الإسلامية التي تَدِينُ لساركوزي في جمعها لتكون حاضرة، ولو شكليا، على مائدة الجمهورية الفرنسية على غرار الديانات الأخرى. ويبدو أن رسالة ساركوزي، صديق هذه الجمعيات، الداعمة للصحيفة الفرنسية في خلافها أمام القضاء الفرنسي مع هذه الجمعيات، أصابَتْها قي مَقْتل.

أحست هذه الجمعيات بأن الوزير الفرنسي ساركوزي (وزير الأديان) قد خانها وضحك عليها. وهو إحساس ربما ينتاب شيخ الأزهر الشريف، الذي آزَرَ ساركوزي في حملته ضد الفتيات المسلمات المحجبات في فرنسا.

في الماضي قيل، يجوز في الحب والحرب ما لا يجوز في غيرهما، والسياسة جزءٌ من الحرب. وساركوزي لا يتورع عن التصريخ بالشيء ونقيضه، ولا يتورع عن الانبطاح حين يتطلب الأمر ذلك. هو ماكيافيلي حقيقي في زمن لا يرحم. ألَمْ ينتظر طويلا أمام باب «الضمير الحيّ للسّود» إيمي سيزيرAimé CESAIRE (الذي كان غاضبا بحق من تصريحات ساركوزي العنصرية) حتى يستقبله، مثلما وقف شعراؤنا، حتى أصحاب الكبرياء منهم، على أبواب الملوك والأمراء؟!