تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم

سبعون باحثا بإشراف محمد أركون

TT

لا يزال هذا الكتاب الموسوعي الضخم يشغل بعض واجهات المكتبات الباريسية حتى بعد مرور اربعة أشهر على صدوره والواقع انه ساهمت فيه خيرة الأقلام الفرنسية والعربية من باحثين واكاديميين ينتمون الى كافة الاختصاصات، فالمؤرخ الكبير جاك لوغوف Gacques Le Goff كتب المقدمة الافتتاحية. والمفكر الجزائري الكبير محمد أركون كتب المقدمة العامة وأشرف على الكتاب ككل. والمؤرخ جان فلوري كتب عن الحروب الصليبية. والباحث المصري رشدي راشد الذي نال مؤخراً جائزة الملك فيصل العالمية كتب عن تاريخ العلوم عند العرب. والكاتب اللبناني أمين معلوف كتب عن الذكريات السلبية التي خلفتها الحروب الصليبية في العالم الإسلامي. والباحث المغاربي علي بن مخلوف كتب عن رؤية بعض المفكرين الفرنسيين القدامى للإسلام وبخاصة مونتيني وباسكال والباحث الفرنسي دانييل ريغ كتب موضوعين كبيرين عن نشأة الاستشراق الفرنسي وتطوره عبر العصور والإنجازات التي حققها. والباحث هنري لورنس كتب عن النظرة التي تشكلت عن الإسلام في الفكر الفرنسي منذ عصر التنوير وحتى أواخر القرن التاسع عشر، الخ.. باختصار فقد شارك في تأليف هذا الكتاب الجماعي الضخم ما لا يقل عن سبعين باحثاً واستاذاً جامعياً وبالتالي فمن المستحيل تعدادهم كلهم مع اسماء موضوعاتهم لان ذلك يستغرق عدة صفحات.. والواقع ان الشيء الأهم هو أن نقول كلمة عن روح المشروع ودوافعه التي تقف وراءه.

وقد عبر عنها محمد اركون أفضل تعبير في المقدمة العامة التي تصدرت الكتاب عندما قال بما معناه: هذه هي أول مرة نقدم فيها للجمهور الفرنسي صورة شاملة عن وجود الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. والهدف هو تبديد الجهل المتبادل بين العالم الإسلامي وفرنسا وكذلك الكره المتبادل الناتج عن صراعات التاريخ الممتدة منذ الفتح العربي الذي اكتسح اسبانيا، بل ووصل الى جنوب فرنسا، حيث جرت معركة بواتييه عام 732م مروراً بالحروب الصليبية وانتهاء بالفتوحات الاستعمارية لبلدان المغرب والمشرق على حد سواء وصولاً إلى اليوم والصدام الجاري حالياً بين المتشددين من كلا الطرفين. كل ذلك أدى الى تشويه صورة الآخر وتشكيل صورة شيطانية عن الغرب في العالم الاسلامي، وعن الاسلام والمسلمين في العالم الغربي. وبالتالي فهدف الكتاب هو تصحيح هذه الصورة عن طريق تقديم أبحاث موضوعية تلتزم بالمنهجيات الحديثة في البحث أي منهجيات العلوم الانسانية والاجتماعية. وهي وحدها القادرة على تفكيك ايديولوجيا الحقد والرفض ـ اي رفض الآخر ـ وتقديم صورة موضوعية عن حقيقة الغرب وحقيقة الاسلام والمسلمين في آن معا. فكل طرف شكل على مدار التاريخ صورة سوداء عن الآخر ثم ترسخت هذه الصورة في الوعي الجماعي إلى درجة انه يصعب تغييرها أو زحزحتها. فاليمين المتطرف العنصري في الغرب ينبذ كل شيء له علاقة بالاسلام أو العرب أو المسلمين ويعتبره متعصبا، متخلفا، همجيا. والحركات الاصولية في العالم الاسلامي شكلت صورة شيطانية عن الغرب الامبريالي الاستعماري المادي، الاباحي، الملحد.. وكذلك فعلت الحركات القومية العربية والماركسية قبلها.

أنتقل الآن الى البحث الذي كتبه هنري لورنس (Henry Lourens) تحت عنوان »الاسلام في مرآة الفكر الفرنسي من عصر الأنوار الى نهايات القرن التاسع عشر« وفيه يقول ما معناه: حتى استهلال عصر التنوير كان نقد الاسلام في أوروبا يتم من وجهة نظر مسيحية لاهوتية معادية جدا. وهي نظرة قديمة تعود الى القرون الوسطى. ولم تكن ترى في الاسلام اي شيء ايجابي وقد شكلت عنه كليشيهات سلبية وافكارا خاطئة ظلت تهيمن على الوعي الغربي حتى أمد قريب، بل ويمكن القول حتى الآن. والواقع ان توسع الامبراطورية العثمانية في منطقة البلقان وسط أوروبا ألقى بظلال الخوف والرعب على أوروبا المسيحية. ولذلك راح الفكر الاوروبي يزيد من تشويه صورة الاسلام عن طريق اعتباره دين الرعب والعنف والاستبداد الشرقي المطلق.

ولكن فيما بعد راح بعض الفلاسفة يمهدون للحملات الكولونيالية على الشرق الاسلامي عن طريق القول بأنهم يريدون تحريره من حكم التعصب الديني والاستبداد السياسي. وهذا هو موقف فولين (1757 ـ 1820) الذي ألف كتابا بعنوان: رحلة الى (Volney) مصر وسوريا عام 1787. فهل كان يحضّر لحملة نابليون بونابرت على مصر يا ترى دون أن يدري؟ من المعلوم ان هذه الحملة حصلت بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ. ومن المعلوم ايضا ان نابليون كان يعتقد بأنه بطل الحضارة التي سوف تكتسح العالم، وانه ذاهب الى مصر لانقاذها من جحيم التخلف والجهل الذي غطَّسها فيه المماليك وعصور الانحطاط الطويلة. وبالتالي ففولين ونابليون من بعده كانا يعتقدان ان نفس العملية التي أدت الى تحرير فرنسا من نير الاستبداد السياسي والتعصب الديني عن طريق الثورة الفرنسية، هي التي ستحرر بلدان الشرق من نفس التعصب والاستبداد. ولكن ألا يمكن القول بأن مشروع محمد علي الذي تلى حملة نابليون مباشرة كان تنفيذا لأهداف هذه الحملة في تحديث مصر وادخالها في ؟؟؟؟؟؟ الحضارة؟ نقول ذلك ونحن نعلم مدى اعجاب محمد علي بالحضارة الفرنسية وكيف حاول نقلها أو الاستفادة منها عن طريق ارسال البعثات العلمية الى باريس وكان ان تخرج من هذه البعثات بطل النهضة الفكرية المصرية: رفاعة رافع الطهطاوي.

ولكن اذا كان للحضارة الغربية وجه ايجابي تحريري حضاري بدون شك فإنه كان لها وجه كولونيالي استعماري، قمعي ايضا. وهذا ما تجلى من خلال حملة نابليون نفسها التي أدت الى ارتكاب بعض المجازر، ثم بالأخص الحملات الاستعمارية على الجزائر والمغرب وتونس.. الخ. وبالتالي فينبغي التمييز بين الصالح والطالح، بين الوجه والقفا فيما يخص الحضارة الغربية. وهو تمييز يصعب أحيانا القيام به نظرا للنقمة العارمة. والمشروعة على الاستعمار وهذا ما لم يعرف المثقفون العرب أن يفعلوه في المرحلة الديماغوجية الايديولوجية التي تلت الخمسينات ولا تزال: أي مرحلة القومية العربية والأصولية الإسلامية على التوالي.

وهذا ما ينبه إليه ايضا الباحث الفرنسي دانييل ريغ Daniel Reig في فصل ممتع بعنوان »من الاستشراق الى علم الاسلاميات والدراسات العربية« فعلى الرغم من اعترافه بأهمية كتاب ادوارد سعيد الشهير عن الاستشراق، الا انه ينبه الى خطورة بعض اطروحاته التي تقضي على كل المنجزات الايجابية للدراسات العربية والاسلامية في اوروبا واميركا الشمالية. فالاستشراق ليس كله سلبيا على عكس ما يظن الجمهور العريض في العالم الاسلامي والعربي. وربما كان ادوارد سعيد نفسه قد انتبه الى خطورة مثل هذا التفسير لكلامه فحاول تصحيحه لاحقا بعد ان شعر بان التيارات الاصولية او القومجية قد تستغل كتابه لاغراض اخرى لا علاقة له بها. فالرجل ليس ضد الحضارة ولا الحداثة وانما هو احد ابرز ممثلي النزعة الانسانية الكونية الحضارية في العالم العربي. ولكنه قام في كتابه هذا برد فعل عنيف على الهيمنة الاستعمارية والامبريالية للغرب. ومعلوم ان الغرب استعمل بعض انواع الاستشراق لتحقيق هذا الهدف ولكن ليس كل الاستشراق. وهنا ايضا ينبغي التمييز بين الاستشراق الهادف الى كشف التراث معرفيا عن طريق تطبيق المنهج التاريخي عليه، والاستشراق الانتهازي، السياسي، الاستخباراتي تقريبا. فهناك علماء اجلاء من فرنسيين والمان وانجليز وسواهم امضوا عمرهم في دراسة تراثنا وتمحيصه ولا يحق لنا ان نحتقرهم او نستهين بجهودهم. وحتى لو استخدمت بحوث بعضهم من اجل اتخاذ قرارات تخصنا في عواصم الغرب فان هذا لا يلغي اهميتها المعرفية المحضة. من يستطيع ان ينكر اهمية ابحاث بروكلمان او نولدكه او جوزيف فان ايس او سواهم في المانيا؟ وقل الامر ذاته عن ابحاث ماسينيون وهنري لاوست وريجيس بلاشير وهنري كوربان وجاك بيرك ولويس غرديه وكلود كاهين ومكسيم روبنسون واندريه ميكل وسواهم في فرنسا. ولا ننسى ابحاث المستشرقين الانغلوساكسون وعلى رأسهم مونتغمري واط الذي توفي مؤخرا عن عمر مديد.. ومن يستطيع ان ينكر اهمية الموسوعة الاسلامية والموسوعة القرآنية في تقدم الدراسات العربية والاسلامية. وقد صدرتا مؤخرا بالانجليزية والفرنسية من جملة لغات اخرى. وفيهما معلومات جمة عن التراث العربي الاسلامي: معلومات دقيقة، موثقة، موثوقة. ولا يستطيع اي باحث ان يستغني عنهما اذا ما اراد ان يكتب بحثا علميا عن اي موضوع من موضوعات تاريخنا وتراثنا الطويل العريض.