لبنانيان يبحثان في «صفحة 7» وما يزالان في انتظار غودو

تحدي اللغة والجسد على خشبة «دوار الشمس»

TT

يوزع عليك وأنت تتأهب لحضور مسرحية «صفحة 7» مطبوع صغير فيه اسماء المشاركين في المسرحية والملاحظة الصغيرة التالية: «إن الشخصيات والحوارات الواردة في هذا العمل ليست محض صدفة أبداً. وهي تمت للواقع بكل صلة، واي تشابه بين عبثيتها والواقع هو متعمد، وعن سابق تصور وتصميم». عبارة تجعلك تضحك بقوة بعد أن ينتهي العرض وتكتشف انك وقعت في شباك عفريتين مسرحيين حاكا خيوط لعبتهما بدهاء لذيذ.

واحد من أكثر مجانين المسرح اللبناني موهبة هو عصام بوخالد. ففي كل مرة يطل فيها، يأتيك بمفاجأة منعشة تفتح مسام الخيال. هذه المرة لم يأت بمفرده وإنما شراكة مع موهوب آخر هو فادي ابي سمرا. وقفا على «مسرح دوار الشمس» كما لو انهما يتحديان اللغة والجسد، مستنفران حتى الابهار، ومحلقان حد المغامرة. رجلان اسقطا عقدة الأسماء والأزمنة والأمكنة، ولم يبق لهما من حلم سوى الاستمرار.

لا حزن مع «صفحة 7» وإن كانت طافحة بالمرارة، ولا ألم مع أنها جارحة، وبمقدورك مع هذين الرجلين أن تضحك ملء شدقيك وانت تتأمل عميقاً وجع متسولين اختزلا العلاقات البشرية كلها في ثنائية حارقة. رجلان يتنازعان على الوقوف في بقعة ضوء تتوسط ظلام المسرح، والهدف رفع شارة النصر. رفع اليد بالانتصار بات هدفاً بحد ذاته، استحق قتالا شرساً وصامتاً من الاثنين. لكن التزاحم يبدأ هكذا على التفاصيل الصغيرة ولا ينتهي، يؤدي إلى تشابك بالأيدي، وتلاسن، وغضب، وارتطام للرؤوس. لحظات الصفاء بين الكائنين عميقة وإن كانت قصيرة ومهددة بالانكسار السريع.

المسرح فارغ إلا من مصاطب متقشفة تحدد خلفية الخشبة وتستخدم كمقاعد أو مواضع للنوم. الاثنان متعبان، قلقان، متوتران، حائران. اثنان فقط، بلا ثالث، ومع ذلك فإن كلاً يشعر بأنه محاصر وخائف، وثمة من يسد عليه أبواب الهواء. إحساس، يستحق حواراً طويلاً وشيقاً. كل تفصيل هو مثار خلاف، كل انتقال ولو لبضع خطوات هو عرضة لأن يتحول إلى شجار.

يبدو لك ان هاتين الشخصيتين، منذ رايتهما في مسرحية «بانتظار غودو» من إخراج روجيه عساف، أي منذ سنوات عديدة على «مسرح بيروت» الذي أقفل ابوابه الآن، وهما تتحاوران حوارهما العقيم والظريف الذي لا يؤدي إلى مكان، لكنه ممتع لشدة سخريته ومجانيته. الرجلان نفساهما بملابسهما الرثة ذاتها، وسحنتيهما المرهقتين، وحيرتهما، مايزالان يتصارعان على لا شيء، ويتناكفان بلا رحمة. هذه المرة هما مشغولان في البحث اليومي عن الموتى في الصفحة 7، أي صفحة الوفيات، ليقتاتا على موائد العزاء. ولكن حتى اختيار الميت المناسب هو موضع خلاف، وطريقة الوصول تتسبب في نزاع. انه التنافس حتى الرمق الأخير، والمزايدة في الحب والكره والاستفزاز والرحمة والتسامح.

فكرة طريفة أن تستكمل حكاية بطلي «في انتظار غودو» من الممثلين بحوار كتباه معاً، واخرجاه سوية، وان يستعيدا ثيابهما المرقعة الممزقة، وتلك الروح العابثة من جديد، ولكن بنكهة مختلفة، كي لا يحرم المتفرج وهج المفاجأة.

كباراً وصغاراً حضروا إلى المسرح هذه المرة، يتابعون قصة الكائنين اللذين يتسليان بأي شيء في سبيل تقطيع الوقت. الحوار هو من البراعة بحيث كان يتجاوز نفسه في كل مرة، والأداء يتكامل مع روح الحوار وكأنما الكلمات تتعاضد مع حركة الأجساد بليونة العجين. متسولان اختزلا في وجودهما المتقشف، والحوارات البسيطة التي تذوب طرافة، والرقص الذي يعانق الجنون، قصة الإنسان في حيرته مع الوجود. ها هما ما يزالان يختلفان حول مواصفات الميت الذي سيقتاتان على مائدته اليوم، ولن يذهبا كما العادة، لأنهما لن يتفقا. وسيكتشف احدهما صدفة ان اسمه مدرج في صفحة الوفيات، وتنتابه الصدمة والذهول ويقول لصاحبه وقد اسودت الدنيا في عينيه: «إلّي قاهرني إني ميت من يومين وما حدا خبرني»، وهكذا يموت فعلا وفي يده الجريده، لكن صاحبه لن يتوقف عن المزايدة هذه المرة ايضا: «أنا أكثر منك بدي موت، انا عشت كل حياتي ميت، أنا خلقت ميت، انا الدود إلي فيّ ميت». الميتان جالسان متلاصقان على المصطبة يتحدثان بصوت هامس، ويقولان انهما ما يزالان ينتظران موعدهما مع غودو: «هوه قال تحت الشجرة. ليش وين في شجرة».

العلاقة بين هذه المسرحية والواقع وشخصياته وثيقة كما يقول المطبوع بخفة دم، لكن تجريد التفاهة البشرية من قيود الزمان والمكان والأسماء، جعل من "صفحة 7" أصعب من أن تحشر في مستنقع صغير بحجم لبنان، وأذكى من ان تنسيك بأنها ابنة بلد مازال يجاهد كي يصبح وطناً للمنتظرين.