على طريقة المعري .. فلاسفة شعراء وشعراء فلاسفة

عودة فرنسية إلى موضوع شائك في الآداب الإنسانية

TT

منذ زمن بعيد وانا احلم بدراسة هذه المسألة، مسألة العلاقة بين الشعر والفلسفة. هناك كُتَّاب «نثريون جدا» تكاد تمحى لديهم كل آثار الشاعرية، انهم مملون ومرهقون. نذكر من بينهم فيلسوفا كبيرا في حجم كانط مثلا، او بشكل اقرب الينا فلاسفة العلم والوضعية المنطقية بشكل عام. وهؤلاء يعتبرون ان البيان الشعري يضر بالفلسفة او بالدقة والصرامة الفكرية. ولكن هناك فلاسفة من نوع معاكس. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر نيتشه، او قبله جان جاك روسو، او في عصرنا الراهن ميشيل فوكو. وقديما قيل عن المعري: شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. وحتى هيغل يحلق احيانا تحليقات شعرية رائعة في بعض كتاباته الفلسفية.

فالفلاسفة ينقسمون الى قسمين: قسم يتمتع بالتوتر الشعري الاقصى، وقسم يخلو من ذلك الى حد كبير ولا يهمه الاسلوب وانما فقط المضمون ودقة التعبير عن الافكار. واما الشعراء فهم ايضا ينقسمون الى قسمين: قسم يفكر كثيرا في شعره، او قسم لا يفكر الا قليلا.. وقد طرحت هذه المسألة مؤخرا في فرنسا، وساهم في مناقشتها العديد من الفلاسفة والشعراء والنقاد. من بين هؤلاء جان كلود بانسون، صاحب كتاب «ان نسكن العالم شعرا، او بشكل شاعري». وهو مفكر وشاعر في آن معا. وهو يرى ان النقد الحديث الدائر حول الشعر ينقسم الى قسمين متضادين: قسم يهتم بشاعرية المعنى، وقسم يهتم بشاعرية الحرف او الشكل او الايقاع والنغم. الاول يربط الشعر بالفلسفة بشكل وثيق، والثاني يبعده عنها الى اقصى حد ممكن. وهنا نجد اطروحتين تتناطحان او تتصارعان: الاطروحة الرومانطيقية التي تعود الى القرن التاسع عشر، والاطروحة المشكلانية البنيوية التي سادت مؤخرا ثم انحسرت. الاولى تقول بأن الشعر لا يفكر فقط، وانما هو الفكر ذاته، انه ا كثر انواع الفكر رفعة وعلوا. والثانية تقول بأن الشعر لا يفكر وليس من مهامه ان يفكر.. انه عبارة عن مجرد حروف واصوات وعلاقات نحوية ولغوية..

عندما نذكر كلمة الشعر المفكر فانه يخطر على بالنا فورا ذلك الشعر الميتافيزيقي التأملي الذي يتحدث عن معنى الوجود وغاياته النهائية. واحيانا نعتقد انهم يعنون به ذلك الشعر الانطولوجي الذي يمتلك مقدرة خاصة للنفاذ الى سر الوجود والكينونة، الى سر الاسرار. ولا يخطر على بالنا وجود نوع ثالث من الشعر، نوع يفكر ولكن بطريقة اقل تأملية وتجريدية.

الاطروحة الاولى كانت قد ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد جماعة الرومانطيقيين المتحلقين في جامعة «بينا» بالمانيا، وذلك ضمن اطار الفلسفة المثالية الالمانية. هناك تبلور ذلك التصور الرائع والمتسامي عن الشعر. فلم تعد مهمة الشعر تكمن في نقل المعارف الدنيوية او الدينية، ولم يعد يقبل الاكتفاء بالسرد القصصي والحكي والزينة البلاغية، وانما اصبح يتحمل مسؤولية التساؤلات الميتافيزيقية والانطولوجية للانسان. كان كانط يرفض فكرة التصوف الفلسفي، وينكر امكانية ان يتمتع الشاعر بالحدس الفكري او الفلسفي. وكل ذلك بسبب عقلانيته المفرطة والناشفة في نهاية المطاف. كان عقلانيا صرفا او محضا. وهذا لا يقلل من عظمته ولكنه يدل على نقطة الضعف لديه: غياب التوتر الشعري الجامح. وهذا ما حاول الرومانطيقيون الالمان الذين جاءوا بعده مباشرة ان يتداركوه. فاعتبروا ان الحدس الفكري يمكن ان يتحلى به الشعر، وان الحدود بين الشعر والفلسفة ليست فاصلة او عازلة الى الحد الذي توهمه كانط. والواقع ان الشعر في المرحلة الرومانطيقية راح يواصل، بوسائل اخرى، نفس المهمة التي كان يقوم بها الدين او الانظمة الميتافيزيقية سابقا. ومعلوم انهما انحسرا او فقدا مصداقيتهما في اوروبا بعد النقد الصارم الذي تعرضا لها اثناء مرحلة التنوير التي مثل كانط ذروتها. لهذا السبب قال نوفاليس، احد كبار الشعراء والمنظرين الرومانطيقيين: ان الشاعر الحقيقي ظل كاهنا في نهاية المطاف. لقد حل محل رجل الدين، وحل الشعر محل الدين كعزاء للبشرية، او كتهدئة لقلقها الميتافيزيقي وتقديم المعنى لها. واما الشاعر الانجليزي كوليريدج فإنه حدد الشعر من جهته على اساس انه الرفض المتعمد للقطيعة مع الايمان. وبالتالي فإن الشعر دخل مع المرحلة الرومانطيقية الالمانية الاولى في عصره الفلسفي، كما يقول الشاعر جان كلود بانسون، واصبح يمثل الحكمة الحقيقية، والمعرفة الحقيقية، والفلسفة الحقيقية. اصبح اكثر فلسفة من الفلسفة ذاتها.

وراح الرومـــــانطيقيون يعتقدون بأن الشعر يتفوق على جميع الاشكال اللغوية والفكرية الاخرى. انه يجسد القدرة الخارقة على التخييل والتعبير الاعلى من جهة، ثم على الفكر الثاقب الذي ينفذ الى جوهر الاشياء واعماقها من جهة اخرى. وهكذا حقق المطابقة بين الذات/والموضوع، بين الأنا/والعالم، وصهرهما في بوتقة واحدة. وهو نفس الشيء الذي كانت فلسفة هيغل تحاول تحقيقه في الفترة ذاتها.

ولكن الرومانطيقيين كانوا يحققون الهدف عن طريق الطاقة الانفجارية الهائلة للصورة الشعرية، وليس عن طريق التفكير العقلاني والمنطقي الصارم الذي كان يتبعه هيغل. وراحوا يعتقدون بان الشعر يفكر بعمق اكثر لانه يدير ظهره للحسابات الصغيرة والمصالح العاجلة واصبحت القصيدة في نظرهم اعلى اشكال العقل، بل واصبحوا يعتقدون بان العقل لا يمكنه ان يتجسد الا شعريا، وذلك فيما وراء كل الحسابات والمنافع الصغيرة والتكتيكات العاجلة، ثم راح الشعر يتجاوز الصورة والمفهوم او الشعبي والعلمي، لكي يرتقي الى مستوى اعلى لا يصل اليه اي اسلوب لغوي آخر. اصبح عبارة عن الاسطورة الحديثة بالمعنى النبيل لكلمة اسطورة: اصبح انجيل العصور الحديثة، اصبح قادرا على ان يقدم للأمة ـ او للجماعة ـ الاصل التأسيسي الذي تشيد عليه هويتها وشرعيتها، ولكن ليس بشكل قانوني، وانما بشكل انطولوجي بل وحتى انطولوجي ـ لاهوتي. لقد حل الشعر فعلا محل الدين في اوروبا المعلمنة او التي كانت في طريق التعلمن. هذا هو على الاقل جوهر الرسالة التي نكتشفها في ذلك البيان الشهير الصادر عام 1798 تحت عنوان: اقدم برنامج للمثالية الالمانية.

في الواقع ان هذا التصور المتفائل جدا بالشعر، والذي يضخم من دوره الى اقصى حد، قد اخترق الحداثة الاوروبية في قسمها الاعظم منذ قرنين على الاقل. فنحن نجده، بشكل آخر، لدى اندريه بريتون مؤسس الحركة السوريالية. وبالتالي فمعظم التيارات الشعرية والنقدية المعاصرة هي وريثة الرومانطيقية الالمانية. يقول بريتون بما معناه: ان الحدس الشعري هو الطريق الملكية التي توصلنا الى المعرفة الباطنية العميقة، وذلك بصفته معرفة بالحقيقة الماورائية. بهذا المعنى فان الشعر هو وحده القادر على اختراق الواقع الخارجي وايصالنا الى منطقة ما وراء الواقع او ما فوق الواقع. وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سوريالية في اللغات الاجنبية Surrealisme. فالشعر السطحي، بالنسبة للسورياليين هو ذلك الذي يكتفي بقراءة الواقع الخارجي، واما الشعر العميق او الباطني فيقدم قراءة عن واقع اعلى يتجاوز هذا الواقع الذي نراه. انه معرفة بما وراء الواقع او بما فوقه. وهي معرفة تتجاوز امكانيات العلم او الفلسفة المنطقية القائمة على المفاهيم العقلانية والحسابات الصارمة والمعادلات الدقيقة والتي هي عاجزة في ان تذهب الى ما وراء الواقع السطحي او الظاهري المكشوف.

هذا هو اجمالا ملخص الاطروحة الرومانطيقية عن الشعر. ولكن هناك اطروحة اخرى في العصور الحديثة تنافسها وتجاورها هي: اطروحة هيدغر وهذه ايضا تعظم من شأن الشعر ولكنها تركز على رسالته الانطولوجية اساسا. ونقصد بالانطولوجيا هنا علم الكينونة او علم الوجود لا علم الكائنات والموجودات، فالفلسفة نسيت مسألة الكينونة بحسب هيدغر منذ ألفي سنة اي منذ ارسطو وقد آن الاوان لاعادة الاهتمام بها من جديد. والشعر هو اللغة الاكثر قدرة على معانقة الكينونة على النفاذ الى جوهر الوجود. لا ريب في ان الكينونة بحسب تصور هيدغر ليست هي الجوهر المطلق الذي كان الهاجس الاكبر او الأفق الاكبر للفلسفة المثالية الالمانية ولكن على الرغم من ذلك فان الشعر بحسب تصور هيدغر يهدف الى كشف الحقيقة. ويصل به الأمر الى حد القول بان مهمة الشعر تكمن في تأسيس الكينونة عن طريق الكلام. هنا يكمن جوهر الشعر حقا.

والواقع ان هيدغر كان يتخيل الشعر والفكر على هيئة ذروتين عاليتين تتوازيان ولا تلتقيان. بهذا المعنى فلم يكن يخلط بين الشعر والفلسفة او يشوش الحدود الفاصلة بينهما كما يفعل تلميذه المعاصر دريدا. فالفلسفة تظل فلسفة ولها لغتها ومصطلحاتها ووسائلها الخاصة، والشعر يظل شعرا وله اساليبه ووسائله المختلفة. ولكن كليهما يتوصل الى «الكلام الاساسي» او «القول الاقصى» بطريقته الخاصة. بهذا المعنى فان الفكر الحقيقي والشعر المفكر يتوصلان الى نفس الشيء في نهاية المطاف ولكن بوسيلتين مختلفتين انهما يعارضان الغزو التكنولوجي للعالم الحديث والقضاء على الطبيعة والبراءات الاصلية. انهما يقفان في وجه العقلانية الكاسحة التي تريد الهيمنة على العالم عن طريق العلم والتكنولوجيا. بهذا المعنى فان هيدغر مضاد للحداثة او عدو لدود للغتها المنطقية والحسابية الباردة ولذلك اتهمه بعضهم بالرجعية او الحنين الى الازمنة الماضية، ازمنة ما قبل الحداثة التكنولوجية.. انه يبحث عن لغة بدائية متوحشة، لغة البراءات المنسية.

فالفكر الحقيقي، كما يرى هيدغر، هو ذلك الذي يعرف كيف يصغي للكلام الصامت للكينونة وللقصيدة التي تتلقف هذه الكينونة. وعلى هذا النحو يتحرر من التصور الميتافيزيقي ويصبح فكرا حقيقيا بالفعل. وبالمقابل فان القصيدة لا تكون قصيدة بالفعل الا بفضل الاصغاء الذي يوليها اياه هذا الفكر.

ويمكن القول بشكل ما بان الشاعر يسبق المفكر الى درب الكينونة الى جوهر الوجود وذلك لان اللغة كانت في البداية شعرا او صرخة، قبل ان تصبح علما او فلسفة او منطقا وبالتالي فالشعر هو الاول وليس الفلسفة. فالشاعر هو القادر على تسمية المقدس او الشعلة المقدسة: اي جوهر الكينونة او لب الوجود.

وهو بذلك يظل قابعا الى جانب هذا الجوهر، يظل متفيئا بظله اكثر من المفكر. انه الاقرب الى النبع الاساسي، الى المورد الصافي.. ولهذا السبب فان الفيلسوف ينبغي ان يستدير نحو الشعر لكي يجد في علاماته وكلماته آثار الكينونة المنسية (او التي نسيتها الفلسفة العقلانية منذ ارسطو): اي منذ الفين وخمسمائة سنة!.. ولهذا السبب يمكن القول بان الشعر اكثر تفكيرا من الفكر ذاته!

ليس غريبا اذن ان يكون هيدغر قد اهتم بالشعر اكثر من غيره من الفلاسفة. فقد كرس دراسات مطولة لقراءة هولدرلين بطريقة فلسفية. وخصص بعض القراءات المعمقة لريلكه ايضا.

هذا التقديس للشعر المدعو بالسماوي او الرائع ينطوي على احتقار للكتابات الموضوعية او النثرية الصرفة. والمقصود بذلك الكلام «غير الانطولوجي» او غير الهادف الى معرفة باطنية عليا تتجاوز المعرفة المحسوسة الظاهرية. فهذا النثر الموضوعي الجاف الذي لا يهتم الا بالظواهر المحسوسة والمعرفة المنفعية هو ايضا علامة على نسيان الكينونة: اي نسيان الجوهر والاهتمام بالقشور بحسب منظور هيدغر. والعلم التكنولوجي نفسه مصنف داخل هذه الادبيات النثرية الجافة، ولذلك اطلق الفيلسوف الالماني عبارته الشهيرة والاستفزازية: العلم لا يفكر!!.. فكل ما ليس شعرا عاليا او لغة قصوى انطولوجية يستبعده هيدغر من ساحة الفكر الحقيقي (المقصود العلم بالمعنى الفيزيائي للكلمة).

ان هذه النظرية بشقيها الرومانطيقي ـ السوريالي، ثم الهيدغري الوجودي سيطرت على فرنسا حتى أمد قريب. وقد كرسها اللقاء الشهير بين شاعر فرنسا الأكبر رينيه شار وفيلسوف المانيا الأكبر مارتن هيدغر عام 1955 في جنوب فرنسا. وساهم في عقد هذه القمة الفلسفية ـ الشعرية شخصيات عديدة، وبخاصة مترجمو هيدغر. وهكذا اجتمع الشعر والفكر مرة أخرى بعد ذلك الطلاق الشهير الذي حصل بينهما قبل خمسة وعشرين قرنا!.. فقبل سقراط عاشت اليونان لحظة ذهبية كان الشعر والفلسفة فيها لا يزالان ممتزجين أو منصهرين. كانا متحدين في المنبع والمصب. ثم انفصلا عن بعضهما البعض بعد ظهور الفلسفة العقلانية وطرد افلاطون للشعراء من جمهوريته. عندئذ فقد الشعر قيمته بحجة انه يستخدم لغة لا عقلانية، لغة أسطورية، خيالية، هيجانية.